أنّ القول بوجود المادة هو الأساس للمذهب التجريبي ، فلا يمكن الإيمان بوجودها إلّا عن طريق العقل ، كما سنشير إليه عند البحث عن حدود المعرفة.
والتجربة ، وإن لم تكن معياراً لتمييز الحقائق عن الأوهام ، إلّا أنّك عرفت فيما مضى أنّها إحدى أدوات المعرفة ، ونضيف هنا أنّها المفتاح الأول للمعرفة ، ومع ذلك لا بُدّ لمتحرّي الحقيقة إذا أعمل التجربة ، من أن يعمل مفتاحاً آخر هو العقل ، حتّى تنكشف له آفاق أُخرى من الحقائق.
فالحقائق المادية والمعنوية أشبه بغرف متداخلة لا يمكن لإنسان دخول الغرفة الثانية إلّا بعد دخول الأولى. فالتجربة تفتح الغرفة الأولى ، ولا بدّ لدخول الغرفة التالية من استعمال مفاتيح أُخرى غير التجربة.
وبعبارة أُخرى : إنّ التجربة في مورد خاص ، تعطي للمعرفة الإنسانية ـ بمعاونة حكم العقل ـ بسطاً عَرْضياً ، فنحكم بأنّ نتيجتها شاملة لعامة الموارد. وأمّا تعميق تلك المعرفة وبسطها عمقاً ، فهو يرجع إلى العقل المحض ، ليستدلّ من رؤية الآية على ذيها ، ومن الآثار على مؤثّرها ، كما أوضحنا ذلك فيما سبق. وتأتي الإشارة إليه عند البحث عن حدود المعرفة.
النظرية الثالثة : الغلبة آية الحق
انتشر في هذه الآونة الأخيرة بين الشباب المتأثرين بالماركسية (١) (الّتي تداعت أُسسها وبدأت بالانهيار) ، بأنّ الغلبة آية الحق وعلامته. وليست هذه الفكرة حديثة ، بل لها جذور في التاريخ ، كيف وقد قيل قديماً : إنّ المُلك لمن غلب ، يريدون أنّ الحق لمن غلب. وانتشر في الألسن قول شاعر العهد الأموي :
أرى فتنةً تغلي مراجلُها |
|
والمُلْكُ بعد أبي ليلى لمن غلبا |
وهذا المبدأ ، على إطلاقه ، غير صحيح ، بل لا بدّ من التفريق بين غلبة فرد أو طائفة على فرد أو طائفة ، وغلبة منهج على منهج ، ولو صحّ جعل الغلبة آية
__________________
(١)MSIXRAM.