ولكن الحق أن يقال : إنّ الإنسان ـ بما أُوتي من بضاعة مزجاة في مواجهة هذا الكون العظيم ـ عاجز عن معرفة حقائق أكثر الموجودات ، وإنّما يتمكن من التعرف على صفاتها الظاهرية ـ كثيراً ما ـ والباطنية ، أحياناً.
ومع هذا الاعتراف ، لا مانع من تعلّق نور العلم بحقائق بعض الأشياء ، وإن كان الجزم بها ، خصوصاً في مثل الفرضيات العلمية ، أمر مشكل ، لأنّ مُثْبَتات العلوم والمعارف ـ عدا مسلّماتها القطعية ، كالأحكام الكلية في الفن الأعلى والفلسفة الأُولى ، والقواعد الرياضية والهندسية ومبادئ العلوم الطبيعية ـ أقول : لأنّ مثبتاتِ العلوم والمعارف في اليوم الحاضر ، منفياتُها في الغد والمستقبل. وعلى الإنسان أن يذكر في كل حال قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١).
هذا هو الحدّ الّذي يجب أن يقال في المقام من غير فرق في ذلك بين الأُمور الطبيعية والخارجة عن إطارها.
هل تتعلق المعرفة بالخارج عن إطار الحسّ؟
الإجابة عن هذا السؤال متفرعة على نتيجة البحث في أداة المعرفة ، فإن قلنا هناك بانحصار أداتها في الحسّ وما يشابهه ، كالتمثيل والاستقراء والتجربة ، فلا تتعلق المعرفة بما وراء المحسوسات ، لعدم وجود أداة قابلة لإدراكها.
وأمّا لو قلنا بأنّ العقل أحدها ، بل قلنا بأنّ الأدوات الأُخرى لا تنتج إلّا بمعونة العقل ، فعندئذٍ لا يبقى هناك فرق بين المحسوسات والمعقولات ، والماديات والمجردات.
فوجود أداة العقل ، دليل على إمكان المعرفة ، وقد تقدم فيما سبق أنّ طريق البرهنة على النظريات الخارجة عن إطار الحسّ ، هو إنهاؤها حسب التسلسل المنطقي إلى البديهيات ، فعند ذلك يستطيع العقل التعرّف على المحسوسات وما وراءها ، لأنّ البديهيات بديهية الصدق ، وما يبتني عليها يكون صادقاً مثلها.
__________________
(١) الإسراء : ٨٥.