ولكن لسائل أن يسأل : من أين وقف هؤلاء الأقطاب على أنّ الطبيعة متحدة الحقيقة والوظيفة. فالمعدن الخاص إذا انبسط في ظروف خاصة ، وجب أن نحكم على جميع أفراد نوعه الأُخرى بالانبساط في مثل تلك الظروف؟
وقد سبق أنْ ذكرنا أنّ هذا حكم عقلي اعتمد عليه هؤلاء ، وهو أنّ المتماثلين يمتنع أن يختلفا حكماً ، وبعبارة أُخرى : حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.
كما ذكرنا أنّ كثيراً من المعارف الحسيّة ممتزجة بمعرفة عقلية ، غير أنّ الإنسان المتسامح يتوجه إلى الجوانب الحسيّة ويغفل عن الجانب العقلي ، فلاحظ.
الدافع الثاني ـ تأثير الفلسفة الوضعية
لقد كان للفلسفة الوضعية ، الّتي أَسّسها أُوغست كانت (١) (١٧٩٨ ـ ١٨٥٧ م) ، تأثير كبير في إخراج العوالم الغيبية عن إطار المعرفة ، فإنّها تتبنى أصلاً خاصاً لا يضفي الواقعية إلّا على ما له صورة ومعطيات حسيّة في الخارج ، وإليك فيما يلي تقريره.
إنّ الفلسفة الوضعية ترفض النظر في أصل الأشياء بحجة أنّ هذا الأمر يتجاوز نطاق المشاهدة والتجربة ، ولأجل ذلك أُتهمت بالإلحاد والمادية.
إنّ الخاصية الأساسية للفلسفة الوضعية هي النظر إلى كل الظواهر على أنّها خاضعة لقوانين طبيعية ثابتة ، في الوقت الّذي تعتبر البحث عمّا يسمى بالعلل (٢)
__________________
(١)etnoC etsuguA. مؤسس الفلسفة الوضعية ، والمؤسس الحديث لعلم الاجتماع. ولد عام ١٧٩٨ في مونبيليه (جنوب فرنسا) ، تخصص في الهندسة. وفي سنة ١٨٢٦ بدأ بإلقاء محاضرات في كلية الهندسة ، عرض فيها مذهبه الوضعي ، كان يحضرها عدد كبير من رجال العلم. وفي أثنائها كان يطبع ما يفرغ من تأليفه منها ، فظهرت في المدة من سنة ١٨٣٠ إلى ١٨٤٢ تحت عنوان «محاضرات في الفلسفة الوضعية» ، وهي أعظم أعماله العلمية. عشق امرأة متزوجة وهام فيها هياماً بالغاً. أثر على نفسياته وآرائه الفلسفية والاجتماعية!! (وهكذا شأن كثير من الفلاسفة الغربيين ، كما يقف عليه المتتبع لسيرهم) وأحدثت فيه لوناً من الاختلال النفسي. توفي في ٥ أيلول سنة ١٨٥٧ ودفن في باريس.
(٢)sesuaC.