ونحن نضع أمام هؤلاء ـ برسم التأمل ـ الجهود الجبارة الّتي يبذلها الفلكيون لاستطلاع الكون الهائل ، وكشف أغواره وما يسبح فيها من مجرّات عظيمة ، ونجوم قاصية ، تبعد عن الأرض مسافات هائلة تقدر بملايين بل مليارات السنين الضوئية (١). ولا يزال المحققون يضحون بأعمارهم في سبيل هذه الاكتشافات؟ أترون أيّها البرجماتيون ، هل جهود هؤلاء هباء ، وعلومهم لاغية؟!
وثالثاً ـ إنّ من الوهم رمي الإيمان بالعوالم الغيبية باللغوية ، وسلب كل نفع وفائدة عنها. كيف ، والدين مبدع للعلوم ، ودعامة للقيم الأخلاقية ، والعدالة الاجتماعية ، وحصن الإنسان يحصّنه في خضم متقلبات العالم ، وغير ذلك من الآثار العملية العظيمة الّتي سنأتي على شرحها عند البحث عن دور الدين في الحياة.
هل العمل يصنع الإنسان؟
لقد غالت البرجماتية ومَنْ قَبِلَها من الماديين الديالكتيكيين والوجوديين (٢) ، فذهبوا إلى أنّ العمل هو الّذي يبني للإنسان ملكاته وأفكاره وروحياته. فإنّ الإنسان يولد وذهنه وروحه خاليان من كل فكرة وملكة ، وإنّما يكتسب الصور والملكات في ظل العمل ، وبها يندفع مجدداً إلى العمل عن وعي أو عن لا وعي.
يلاحظ عليه :
لا شك أنّ للعمل تأثيراً كبيراً في صنع الروحيات والملكات الفاضلة والطالحة. فإنّك ـ مثلاً ـ ترى الإنسان عند أول نطقه ، لا ينطق إلّا بصدق ، حتّى يلجئه عامل ما على الكذب ، فإذا كرّر ذاك العمل الرديء ، انقلب الكذب في نفسه ملكة راسخة تتحكم بلجام بيانه ، حتّى لا يقدر على الصدق إلّا بمشقة. وكذلك الأمر في جانب الملكات الفاضلة. وبالجملة : العمل وتكراره خلّاق للملكات.
__________________
(١) السنة الضوئية هي المسافة الّتي يقطعها النور في مدة سنة واحدة وهي تساوي على التقريب / ٥ ، ٩ تريليون كلم ، أي تسعة آلاف وخمسمائة مليار كيلومتر.
(٢)MSILAITNETSIXE.