نعم ، هذه المقايسات والنسب تحصل في الدماغ بسرعة مذهلة ، كما ربما يحصل في الآلات الحاسبة والأدمغة الإلكترونية ، فيتخيل الإنسان أنّه شاهد العوالم الخارجية بسعتها. والحال أنّه إنّما شاهدها مصغّرة بما انعكس على الشبكية ، لكن عملية المقايسة العقلية تأخذ مجراها بسرعة فائقة كما ذكرنا.
يلاحظ عليه :
نحن لا ننكر شيئاً ممّا أقرّ به العلم من تشبيه العين بآلة التصوير ، كما لا ننكر تلك المقايسات العقلية ، لكن ذلك كلّه ليس شافياً ولا دافعاً للسؤال ، بل تجدنا نتساءل ثانية : أين هي تلك الصورة العلمية الكبيرة ، الّتي صورتها الأعصاب والخلايا الدماغية بعمليات المقايسة ، وفي أي محلّ تحلّ؟
وما ربما يقال من أنّ تلك الصورة ، بتلك الكيفية ، صورة خيالية لا واقع لها ، غير شافٍ أيضاً ، لأنّ الصورة الخيالية صورةٌ خيالية إذا قيست إلى الواقع ، وأمّا بالنسبة إلى محلّها ، فلها واقعيّة لا يصحّ سلبها عنها. فتصوّر إنسانٍ له رأسان ، صورة خيالية إذا قيست إلى أفراد البشر المتعارفين ، ولكنها بالنسبة إلى المحل الّذي تحققت فيه ، أمر واقعي.
ولذا يعود السؤال مرة أخرى : أين هي هذه الصورة الخيالية ، بتلك الكيفية ، المتحققة في محلّها بعد عملية المقايسة وحكم العقل؟
فإن زعم الماديّ أنّ هذه الصورة ، في الخلايا الإدراكيّة ، عاد الإشكال ثانية (انطباع الكبير في الصغير).
وإن قال بأنّها موجودة في محلّ غير الجهاز المادي ، فقد اعترف بتجرّد الإدراك عن هذا الجهاز.
الدليل الثاني ـ امتناع انطباع المتصل في المنفصل
إنّ من خواص المادة ، انفصالها وعدم اتّصالها ، ولكنا نرى الأجسام وما فيها من الأشكال والخطوط ، متصلة. ولو كانت الصور العلمية حالّة في المادة ، لظهرت هذه الصور في الذهن ، متخلخلة ، لأنّ محالّ الإدراك منفصلة