مادية. ولو قال المادي إنّ ذلك من صنع الخيال ، لما أضرّ الدليل بشيء ، لأنّه اعترف بوجود الأُمور المتصلة في ظرف الخيال. والصور الخيالية إنّما هي خيالية إذا قيست إلى الخارج، وأمّا إذا لوحظت بأنفسها ، وغُضَّ البصر عن القياس ، فهي من مراتب الوجود ومدارج الحقيقة.
الدليل الثالث ـ الروابط التصديقية لا تقبل الانقسام
إنّ الانقسام والتجزئة من خواص المادة ، ولو وجدنا شيئاً لا يقبل الانقسام لا حسّاً ولا عقلاً ، فذاك دليل على أنّه ليس من سنخها ، وإلّا لما فارقه الانقسام والتجزئة.
ومن تلك الأُمور الروابط التصديقية ، فهي غير قابلة للانقسام. وبإمكانك أن تستوضح الحال من المثال التالي :
تقول : هذا الجسم أبيض. فالموضوع ـ وهو الجسم ـ كمحموله ، ذو أبعاض وأجزاء، إلّا أنّ الحكم بأنّ هذا ذاك (الّذي يعبّر عنه في مصطلح المنطقيين ب «الهوهويّة») الّذي هو روح التصديق ، لا يقبل الانقسام أصلاً. ومهما حاول الإنسان أن يضغط على عقله ليقسّم هذا التصديق والحكم ، ويجعل له جزءاً ، فإنّه سيظل عاجزاً عنه ، غير قادر عليه.
وهذا دليل على أنّ حقيقة التصديق القائمة بالنفس ، ليست ماديّة ، وإلّا لما تخلّصت من آثار المادة وخواصها.
الدليل الرابع ـ الوجدانيات لا تنقسم
يجد كلّ إنسان في أعماق ذهنه حبّاً وبغضاً وإرادة وكراهة وحسداً وبخلاً ، وغير ذلك من الإدراكات الروحية ، يعلم بها علماً حضورياً. وجميع تلك الأُمور بسيطة لا تقبل الانقسام والتحليل والتجزئة ، الّتي هي من أظهر خواصّ المادة.
لاحظ حبَّك لرفيقك ، وبُغْضَك لعدوِّك ، فهل تجد فيهما ، في قراءة ذهنك ، تَرَكُّباً وانقساماً ، وأنّ كلًّا منهما ينقسم إلى أجزاء. كلا ، فذاك آية تميّزهما عن المادة ، وإن شئت قلت : تجرّدهما.