الدليل الخامس ـ إدراكُ الكلِّي غيرُ ماديٍ
إنّ المفاهيم العامة الكلية الّتي لا تأبى الصدق على كثيرين ، كمفاهيم الإنسان والشجرة والحجر ، الّتي يعبر عنها في الفلسفة ب «المفاهيم المُرْسَلَة» ، يمتنع أن تكون مادية. وذلك أنّ الموجود المادي ، موجود شخصيٌّ ، مقيّد بقيود الزمان والمكان. والمقيّد بها يستحيل أن يطّرد صدقه على مصاديق كثيرة ، مع أنّ المفاهيم الذهنية نقيض ذلك ، فإنّها تصدق على مصاديق وجدت في الأزمان الغابرة وتوجد في المستقبلية وموجودة في الحال.
واعترافنا بأنّ الكلي له صلة بأفراده ومصاديقه نتيجة انطباقه عليها ، لا يصدُّنا عن القول بأنّ وجوده غير مشوب بالمادة وآثارها. يرشدنا إلى ذلك أنّ جواز صدق الكلي على كثيرين ـ الّذي هو من خصائصه ـ ممّا لا يعقل تحققه في المادة ، لأنّ المادة والمادي متعينان بالزمان والمكان ، والتعيّن بهما أو أحدهما لا يجتمع مع الكليّة ، إذ الكلي يصدق على مصاديق مختلفة حتّى من حيث الزمان والمكان.
وعلى ذلك يصحّ لنا أن نقول : إنّ المفهوم الكلي ـ كالإنسان ـ الموجود في العقل ، عارٍ عن شوائب المادية. فهو ـ بما أنّه يصدق على كثيرين ـ مُرْسَلٌ من كل قيد ، ومُطْلَق من حيث الزمان والمكان. ولا شيء من الماديات يمت إلى المطلق والمرسل بصلة.
وهذا يهدينا إلى القول بتجرّد الفكر من المادّة وشئونها (١).
الدليل السادس ـ ثبات الفكر وعدم تغيّره
التغيّر وعدم الثبات يُعَدان من أظهر خواص المادة ، فلا ثبات ولا بقاء ولا استقرار لها. فالمادة والتغيّر متلازمان ، وقد أثبت ذلك الفلاسفة الإسلاميون عند بحثهم عن القوة والفعل ، والحركة والزمان. كما أيدته العلوم الحديثة. هذا من جانب.
__________________
(١) وقد بسط الفخر الرازي الكلام في هذا الدليل في كتابه «المباحث المشرقية» : ٢ / ٣٤٥ و ٣٦٤ ـ ٣٦٦ ، والأخير الصق بالبحث. فمن أراد فليرجع إليه.