ومن جانب آخر ، إنّ إدراك شيء وتصوره لا يجتمع مع التغيّر والسيلان ، لأنّ أسهل التعابير الّتي ذكرت لحقيقة العلم ، مثل قولهم : «هو الوقوف على الشيء بإدراك صورة منه» ، أو قولهم : «هو انتزاع صورة من الموجود الخارجي بالأجهزة المناسبة» ، أو غير ذلك من التعاريف ، تعرب عن أنّ حقيقة الإدراك يمتنع أن تكون سيّالة متغيّرة ، فإنّ الوقوف على الشيء يستدعي نحو ثبات للمعلوم ونحو قرار له.
وبإمكانك صبُّ البرهان في قالب الاصطلاح ، فتقول :
حيثية العلم غير حيثية التغيّر والسيلان ، ويستنتج منه تغاير سنخ وجود العلم مع سنخ وجود المادة.
وإنْ صَعُبَ عليك هذا البيان فاستغن عنه بالبيان التالي في مجال التذكر :
لا شك أنّ الإنسان أليف النسيان ، ينسى ما عرفه أولاً ، ثمّ يسترجعه في فترات معينة ثانية. وليس الاسترجاع إلّا تذكر ما غاب عنه ، وبعبارة أدقّ ؛ إعادة عين ما كان واقفاً عليه في سالف الزمان ، بحيث لا يجد فرقاً بين المُدْرَكَينْ.
فعملية الاستذكار الّتي يمارسها كلٌّ منّا في يومه وليله ، دليل واضح على أنّ للصور العلمية ثباتاً وبقاءً ، ولولاه لما أعدنا واستحضرنا عين ما وَعَيْناه سابقاً.
والآن نقول : لو كانت حقيقة العلوم ، نفس الآثار المادية البارزة في الأدمغة البشرية ، لما كان للتذكر مفهوم صحيح ، خصوصاً إذا طالت المدة بين الإدراكين. ومن المعلوم والثابت في العلوم البيولوجية أنّ الخلايا تموت وتتبدل بغيرها بشكل دائم ومستمر ، بل أثبت العلماء أنّ بدن الإنسان يتبدل كليّاً كل عشر سنين ، فتنعدم الخلايا السابقة بأسرها وتحلّ محلها خلايا جديدة.
فلو كانت إدراكات الإنسان وعلومه متمركزة في هاتيك الأعصاب والأجهزة الدماغية، لما كان للتذكر واسترجاع عين الإدراكات ، حقيقةٌ بعد فناء الأجهزة الدماغية وحلول غيرها مكانها. ويكون موقف التذكر عندئذٍ ، موقف العلم الجديد الّذي لم يقف عليه الإنسان بعد.
إنّ القائل بمادية المعرفة لا يقدر على حلّ مشكلة عدم اجتماع العلم والإدراك