فالذهن أشبه ما يكون بآلة التسجيل ، فإنّ الأمواج الصوتية لا تُسَجّل على الشريط بعينها وخصوصياتها ، وإنّما تتبدّل إلى امواج مغناطيسية تنتقش في الشريط ، على وجه لو أدير هذا الشريط مرة ثانية في جهاز التسجيل ، تتبدل تلك الأمواج إلى أصوات تشابه السابقة.
وهذه الفرضية أيضاً مردودة ، وذلك لأنّ الأثر الباقي في الأعصاب الإدراكية بعد تعطيل الحواس والإدراك ، ليس نفس الصور العلمية والخواطر ، وإنّما هو أثر ماديٌّ للإدراك السابق ، فعند ما تتأثر تلك النقطة بعوامل خارجية أو داخلية ، تتمثل لنا الصور العلمية والخواطر الّتي مضت علينا. فحينئذٍ نسأل : هل هذه الصور العلمية والخواطر والسوانح عين ما أدركناه سابقاً أو لا؟. والأوّل لا يجتمع مع كون الإدراك ماديّاً. وعلى الثاني ، لا بدّ للمادي من الالتزام بأنّها علوم وصور جديدة ، ومفاهيم حديثة تشابه سوابقها. وهو خلاف ما يجده الإنسان في قرارة ذهنه ، فإنّ كل واحد منّا إذا رجع إلى وجدانه ، يجد عين ما أدركه سابقاً ، متمثلاً ومتجسماً ، لا مشابهه ومماثله.
وأمّا قياسهم الذهن بالمسجلة ، فقياس مع الفارق ، فإنّ ما يسمعه الإنسان من المسجلة ، إنّما هو كلام حديث يشابه الكلام السابق ، مع أنّ القضية في التذكّر غير ذلك.
الدليل السابع ـ التصديق لا يتلاءم مع مادية الإدراك
لو كان الإدراك ماديّاً ـ وقد عرفت أنّ السيلان والتغيّر واللابقاء من خصائص المادة ـ لامتنع التصديق بقضية من القضايا. إذ التصديق هو الإذعان بأنّ هذا ذاك ، وأنّ الموضوع متصف بمحموله. والإذعان بهذا الأمر ، يتوقف على تصور مفرداته حتّى يتعلق الإذعان بالنسبة ، وهذا يتوقف على كون ما ندركه من المفردات والنسب أُموراً مجرّدة ثابتة ، حتّى يتمكن العقل من الحكم.
وأمّا إذا قلنا بماديّة الإدراك ، وأنّ الأجزاء الدماغية وما يطرأ عليها من الصور تتبدّل فوراً ففوراً إلى المماثلات ، فيمتنع التصديق. لأنّه ـ على الفرض ـ إذا تصور الإنسان موضوعاً أولاً ، ثمّ عاد إلى تصور المحمول ، ليحكم في الآن