ولا يضرّ كونُ هذا الثبات والاستقرار خيالياً ، لما تقدم مراراً من أنّ الخيال إنّما هو خيال بالنسبة إلى الخارج ، وأمّا بالنسبة إلى الوجود بما هو هو ، فهو من مراتب الواقع والحقيقة.
الدليل الثامن ـ حضور الذات لدى الذات
قد عرفت فيما مضى انقسام العلم إلى حصولي وحضوري ، وأكثر (١) ما مرّ من البراهين أثبت تجرّد العلوم الحصولية الّتي عبّرنا عنها بالصور العلمية او المفاهيم الذهنية.
وهناك دليل على تجرّد العلوم الحضورية أيضاً ، وهو علم ذاتنا بذاتنا. فقد دلّت التجارب على وجود هذا الإدراك في عامة المخلوقات الحيّة ، وفي طليعتها الإنسان.
وهذه الحالة العلمية ، أعني حضور ذواتنا لدى أنفسنا ، لا تختص بعضو معين أو جانب خاص ، بل تعمّ الإنسان كلّه ، لأنّ أحدنا ربما يغفل عن جميع أعضائه ، ومع ذلك يجد ذاته حاضرة لدى ذاته لا تغيب عنه أبداً.
واذا رجع الإنسان إلى ما مضى من أيام حياته ، يجد أنّ هاهنا ذاتاً ثابتة ، لم يغيّرها مرور السنين وتطاول الأعوام ، وتبدّل الظروف والأحوال.
فإذن ، نحن ندرك ونعلم علماً حضورياً بأمر واحد بسيط لا يقبل انقساماً ولا كثرة ، ثابتٍ مستقرٍ لا يطرأ عليه تبدّل ولا تغيّر ، حاضِرٍ أبداً لا يغيب ، حضوراً بوجوده الخارجي عند المدرك من دون انتزاع صورة علمية منه. وهذه الأُمور جميعها آية كون المعلوم هذا مجرّداً بريئاً عن المادة وآثارها (٢).
__________________
(١) إشارة إلى البرهان الرابع ، فإنّه ـ كهذا البرهان ـ ناظر إلى تجرّد العلوم الحضورية ، فإنّ الوجدانيات كالحب والبغض معلومات للإنسان بالعلم الحضوري.
(٢) إنّ هذه البراهين الّتي أقمناها على تجرّد الإدراك مستفادة من دراسات الفيلسوف الأكبر الأُستاذ العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي ، ذكرها في «أُصول الفلسفة» المترجم إلى العربية بقلم الشيخ الأُستاذ ـ دام ظله ـ فلاحظ : ١٣٧ ـ ١٧٢.