والموضوعية في «المعرفة» قائمة على أساس أنّ الصور الذهنية لا تختلف عن الموجودات الخارجية في الماهية ، وإنّما تختلف في الوجود فحسب. فالذاتي ـ يعني الماهية ـ محفوظ في كلتا النشأتين ، وإلى هذا يشير الحكماء بقولهم : «الذاتيات محفوظة في جميع أنحاء الوجود».
وعلى هذا الأساس ، فإذا تعلق العلم بمقولة من المقولات الّتي تقدّم بيانها ، لا بدّ أن تكون تلك المقولة الخارجية محفوظة بعين حقيقتها في الذهن. فإذا رأينا شكلاً هندسياً مثلثاً ـ والمثلث من مقولة الكم ـ تكون صورته الذهنية ـ بحكم الضابطة المتقدمة ـ من مقولة الكم أيضاً ، وإلّا لما كانت الذاتيات محفوظة فيه ولما كان العلم حاكياً عن الواقع وكاشفاً له. فالمثلث ، بكلا وجودَيْه الخارجي والذهني ، من مقولة الكم وقس عليه غيره من أفراد سائر المقولات.
الأمر الثالث : المقولات هي الأجناس العليا للموجودات
ذهب الفلاسفة إلى أنّ المقولات العشر ، هي المقولات العليا ، وليس فوقها مقولات وإن كان تحتها أنواع أو أجناس متوسطة. فالجوهر جنسٌ عالٍ ليس فوقه جنس وإن كان تحته أجناس متوسطة (١). والكيف جنسٌ عالٍ ليس فوقه جنس ، وإن كان تحته أجناس متوسطة(٢).
وهذه الأجناس العليا ، متباينة بالذات ، ليس بينها جهة جامعة ذاتية. نعم ، الأعراض التسعة وإن كانت داخلة تحت عنوان «العَرَض» ، لكن العَرَضية ليست عنواناً ذاتياً لها ، بل هي مفهوم انتزاعي ينتزع من مقام وجودها ، فإنّ الأعراض التسعة ـ نسبية كانت أو غيرها (٣) ـ لمّا كانت عارضة في مقام الوجود على موضوعاتها ، يطلق عليها عنوان العَرَض ، ولأجل ذلك لم يكن «العَرَض» جنساً عالياً ، بل الأجناس العالية هي ما وقع تحت عنوان «العَرَض».
__________________
(١) هي : العقل ، والنفس ، والصورة ، والهيولى ، والجسم المركب منهما.
(٢) تقدمت أقسام الكيف في الأمر الأول.
(٣) الأعراض غير النسبية هي الكم والكيف. وما سواهما ـ أعني السبعة الباقية ـ أعراض نسبية.