من أَنَّ العدلَ حَسَن ، والظلمَ قبيح ، وعَوْنَ الضعيفِ حَسَن ، والركونَ إلى الظالم قبيح ، مُدْركاتٌ من شأنها تطبيقها في الحياة (١).
إذا وقفت على الفرق بين الإدراكيين (٢) يقع الكلام أولاً في أنّه هل هناك صلة وعلاقة بينهما ، أو لا؟ وعلى فرض وجودها ، فهل الإدراكات النظرية علّة تامّة لاستخراج الحِكَم العملية ، أو أَنّها ليست كذلك؟ هاهنا نظريات ثلاث :
١. وجود رابطة وثيقة بينهما ، وأنّ مَثَل الإدراكات العلمية بالنسبة إلى العملية ، مثل العلل التامّة إلى معاليلها.
٢. إنّ بينهما ارتباطاً بنحو المقتضي. فالحِكَم النظرية ليست علّة تامّة للعملية بل يتوسط بين الإدراكين أُمور أُخرى ربما تفرض على الإنسان تطبيق حياته وفق ما يدركه من السنن السائدة على الكون ، وربما تصدُّه عن اقتفائها وتطبيق عمله عليها.
٣. لا ارتباط أصلاً بين الحكمتين.
وإليك بيان هذه النظريات ومناقشتها.
* * *
النظرية الأُولى : الحكمة العملية تنطلق من الحكمة النظرية
يقول أصحاب هذه النظرية : إنّ ما يدركه الإنسان من عالم الوجود
__________________
(١) ويرجع لُبُّ الحكم بالحُسْن أو القُبْح إلى الحكم بلزوم الإتيان ، أو لزوم عدمه. فهنا إدراك باللزوم فعلاً وتركاً.
(٢) نضيف هنا بأنّ كلَّ ما يعتقده الإنسان من مبادئ وعقائد حول الوجود والكون ، وما يعتقده المسلم حول الصانع تعالى ، وصفاته ، وأفعاله ، الّتي يطلق عليها أُصول الدين ومبادئُهُ ، هي من الحكمة النظرية.
وما يلتزم به السياسيون والحزبيون من أُصول خاصة يطبّقونها على أحزابهم وبلدانهم ، أو ما فرض على الموحدين من شرائع ، كلُّها من الحكمة العملية. نعم ، تختص «الحكمة العملية» بما يدركه العقل ـ باستقلاله ـ في مجالات الحياة ، ولكنها تُطلق ـ توسعاً ـ على ما نزل به الوحي السماوي من إلزامات وتحريمات ومستحبات ومكروهات ومباحات.