الفصل الثالث
قيمة المعرفة
منذ أن أطل الإنسان على العالم بنظره ، عاين الأشياء ، فعلم بعلمٍ بسيط لا يعتريه شك ولا يشوبه ريب أنّ الفضاء مملوء بموجودات هائلة ، والأرضَ تحتوي على كائنات لا تُحصى ، هو أحدها. كما علم بعلم فطري أنّ في الكون ديّاراً سوى ما يراه ، وأنّ في صحيفة الوجود موجودات غيرها ، وأنّ وراء نفسه وتصوراتها حقائق واقعية ثابتة ؛ لم يَرْتَبْ في ذلك أبداً.
وكل واحد منّا إذا رجع القهقرى إلى أُوليات حياته ، يقف على أنّه ما عرف يمينه من يساره إلّا وقد أدرك قبل عرفانه هذا ، أنّ وراء وجوده وتصوراته عالماً مشحوناً بالموجودات ، وأنّه في هذا العالم مبدأ لأفعال تصدر عنه باختياره ، فهو يأكل إذا جاع ، ويشرب اذا ظمئ ، ويكتسي إذا عري ، ويستريح إذا تعب ...
إنّ الاعتراف بأنّ وراء ذهن الإنسان وذهنياته حقائق ووقائع تحكي عنها علومهُ وإدراكاته ، ليس بمعنى تصويب عامة آرائه وأفكاره ، بل المراد التصديق الإجمالي بأنّها تكشف عن واقعيات ، لأنّه كما يكون مصيباً في بعض إدراكاته ، قد يخطئ في بعض آخر منها.
هذا ما عليه جل البشر. إلّا أنّ هناك شرذمة قليلين خالفوا الرأي العام في هذا المجال ، وهم بين منكرٍ للواقعيات والحقائق ، قائلٍ بأنّ الصور الذهنية ليست إلّا خيالاً في خيال ولا تكشف عن شيء وراءها أبداً. ومسلّم بالحقائق