مناهج تقييم المعرفة
(١)
منهج الإنكار (١)
إنّ تاريخ الفلسفة اليونانية يحكي عن ظهور جماعة في القرن الخامس قبل الميلاد ، يدّعون أنّهم من أهل الفضل والعلم ، كانوا ينكرون المحسوسات والبديهيات ، ويَعُدّون صحيفة الوجود خيالاً في خيال ، ولا يعترفون بشيء من الواقعيات ، وغاية ما كانوا يعترفون به بعد البحث والجدال ، هو وجودهم وذهنهم وذهنياتهم. وهؤلاء عُرفوا في تاريخ الفلسفة بالسوفسطائيين (٢).
وممّا ينقضي منه العجب ، أنّ الجدل ربما كان يجرهم إلى إنكار وجود أنفسهم أيضاً ، ومع ذلك كله كانوا يعيشون كسائر الناس الذين لا يشكون في الحقائق ، بلا اختلاف بينهم في المعيشة والسلوك. فلم يُشاهد من المنكرين ، الضحكُ في مقام البكاء ، ولا النوم عند الجوع ، ولا السكوت في موضع التكلم. وذلك يعرب عن أنّهم كانوا يتفوهون بما ليس في قلوبهم ، ويقولون بما يضاد ما توحيه إليهم فطرتهم ، وهو أنّه لا يسدّ جوع الإنسان خيال الأكل إذا جاع ، ولا يرويه تصوُّر الماء إذا ظمئ ، ولا يكسوه خيال الثوب إذا عري ، ولا يريحه تفكير الراحة إذا تعب.
__________________
(١)MSIHPOS.
(٢) لم يتعرض الأستاذ ـ دام ظلّه ـ إلى شخصيات السوفسطائيين ، ولا إلى آرائهم العملية ، ولذا نستدرك ذلك في ملحق خاص آخر الكتاب ، فراجعه.