بواعث الإنكار
فلا بد ـ في ضوء ذلك ـ من البحث عن الحافز أو الحوافز الّتي جرّتهم إلى تبني هذه الفكرة الساقطة. ولعلّ الّذي دعاهم إلى تبنيها أحد الأمرين التاليين أو كلاهما.
الأوّل ـ ظهور الآراء المتشتتة في الأبحاث الفلسفية فيما يتعلق ببدء العالم ونهايته ، وموجده ، وغرضه وغير ذلك ممّا تضاربت فيه الآراء. ورأوا أنّ كل طائفة تخطّئ الأُخرى وتردّ براهينها ، والتشاجر والتنازع فيما بينها قائم على قدم وساق ، فلا ينقطع البحث ولا يصل إلى غاية.
فهذا البسط والعمق من جانب ، وبساطة أفكار القوم في تمييز الصحيح من الآراء عن الزائف منها ، من جانب آخر ، جعلهم حيارى ، وعقولهم صرعى ، فلجئوا إلى مسلك آخر ، وهو مسلك السفسطة بأقسامها.
الثاني ـ ظهور فنّ الخطابة في تلك الأدوار ، وهذا الفن يبتني على ذوقيات وتحليلات يستحسنها البسطاء ، حيث يجدونها ملائمة لبعض قواهم. وكان للخطابة تأثيرٌ واسعٌ في تلك الحقبة ، فاستخدمها رجال السياسة لبيان أهدافهم السياسية في إجراء الإصلاحات ، أو إشعال الثورات ، أو إخمادها. بل كان المحامون في المحاكم القضائية يستخدمونها في الدفاع عن موكليهم. فلأجل ذلك دوّنوا لها أصولاً وقواعد ، وصارت فنّاً مستقلاً.
فلما كان القوم يرون أن رجال السياسة قد يتبنون موقفاً اليوم ، وآخر غداً ، ورأوا أنّ كل محام يتبنى شتى ما ينتفع به موكله ويبطل ما يدّعيه خصمه ، بل ربما لجأ محامٍ واحد إلى الدفاع عن المتخاصمين جميعاً ، كل ذلك صار سبباً لتشكيك القوم في ثبوت واقعية وراء التفكير الإنساني ، إذ رأوا أنّ الحقائق مَلْعَبَةُ الأفكار والآراء.
وظل القوم تائهين في ضلالتهم ، يسوقون العامة إلى حضيض الجهل والظلمة ، إلى أن نهض الفطاحل من الأغارقة الأقدمين كسقراط وأفلاطون وأرسطو ، فكافحوهم ، وبددوا شملهم ، وحلّوا عقدهم وشبهاتهم ، وأوضحوا