ولا بدّ من إلفات نظر الباحث إلى أنّ بعض الحواسِّ قد تكشف خطأ حاسَّة أُخرى ، ففي مورد القلم الّذي يتراءى في الماء منكسراً ، تلمسه اليد مستقيماً مستوياً ، فتكشف حاسَّةُ اللَّمس خطأَ حاسّة البصر ، وهكذا سائر الحواس (١).
الشبهة الثانية ـ المُدْرَك هو الصور الذهنية لا الواقع
إنّ الإنسان لا يقف عند عملية الإدراك إلّا على الصورة الذهنية ، ولا ينال الواقع الموضوعي. وانطلاقاً من هذا ، لا يصحّ لنا الإذعان بوجود حقائق خارجية ، إذ الحاصل عندنا هو العلم لا المعلوم الخارجي ، فإنّ من المعلوم أنّ للواقع الخارجي آثاراً خاصّة غير موجودة في الفكر عند الإدراك.
وإن شئت قلت : إنّ الوسائل التي تَجَهَّزَ بها الإنسان للوصول إلى الواقع ، لا توصله إلّا إلى الصور العلمية والإدراكات الذهنية القائمة في ذهنه. فالإنسان الّذي يُطِلُّ على العالم بنظره حتّى عن طريق المِجْهَر والتلسكوب ، لا يحصل له ـ رغم ما يتحمله من الجهود ـ إلّا صور ذهنية ، وهي لا تروي غليله.
الجواب :
إنّ المستدلّ نظر إلى العلم بما هو هو ، بالنظر الموضوعي والاستقلالي لا بالنظر الآلي والطريقي ، فألغى جهة كشفه وطريقيّته ، فرتّب عليه ما رتّب. ولكنه غفل عن أنّ العلم والكشف عن معلوم سواه ، متلازمان لا يتفارقان ، وأنّ
__________________
(١) لم يتجاهل الفلاسفة الإسلاميون البحث حول هذه الشكوك. وقد عقد صدر المتألهين في أسفاره فصلاً لذلك ، وممّا قاله : زعم بعضهم أنْ لا حقيقة للكيفيات المحسوسة بل هي مجرد انفعالات تعرض للحواس. وقال : من حججهم أنّ الإنسان الواحد قد يرى جسماً واحداً على لونين مختلفين ، بحسب وضعين منه ، كطوق الحمامة يُرى مرّة أشقر ومرّة على لون الذهب بحسب اختلاف المقامات ، وأيضاً السكَّر في فم الصفراوي مرّ وفي غيره حلو ، فلا حقيقة لهذه الأشياء إلّا انفعال الحواس الخ ... ثمّ أخذ بنقده. (لاحظ الأسفار : ٤ / ٦٥ ـ ٦٦) الفصل السادس عشر.
كما بسط الإمام الرازي الكلام في حلّ هذه الأمثلة الّتي وقعت ذريعة في أيدي الشكّاكين ، لاحظ المباحث المشرقية : ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥٢.