وعند ما تهبط من ذلك المقام الشامخ وتتعلّق بالبدن الماديّ ، تفقد كل ما كانت تعلمه من المثل والحقائق ، وتذهل عنه ذهولاً تامّاً.
ولكن عند ما يعي الإنسان ، ويبدأ بإدراك الأُمور الجزئية ، يبدأ بتذكّر ما كانت تعلمه نفسه ، ويسترجع إدراكاتها بصورة مفاهيم كلية. فليس المفهوم الكلي المتجلي في الذهن إلّا انعكاس المُثُل في ذهن الإنسان. فمتى أدرك زيداً وعمراً ، انتقل فوراً إلى الحقيقة المثالية الّتي كانت تدركها النفس قبل اتّصالها بالبدن.
فنظرية الاستذكار ترجع إلى حلّ عقدة كيفية انعكاس المفاهيم الكلية في ذهن الإنسان ، فهي تقول : إنّ إدراك المحسوسات مُعِدٌّ لاتّصال النفس بذاك العالم الشامخ الّذي كانت النفس تعيش فيه ، وبالتالي إدراك المثل وانعكاس ظلّها على النفس ، الّذي يعبّر عنه بالمفهوم المجرّد عن المقارنات.
وقد أكّد أفلاطون أنّ الظواهر أُمورٌ فانية ، وليست أصولاً باقية ، والعلم الحقيقي يتعلق بالثابتات لا بالفانيات ، والمُثُل ـ بما أنّها واقعيات ثابتة ـ يتعلق بها العلم.
هذه أبرز أُصول نظرية أفلاطون في المعرفة ، وهي بعدُ قابلة للنقد والنقاش ، وقد نقدها الفلاسفة الإسلاميون في أسفارهم. وعقد صدر المتألهين في أسفاره فصلاً في دفع ما قيل من أنّ النفس لا تدرك الجزئيات ، وممّا قاله : إنّ النفس ذات نشئات ثلاث : عقليّة وخياليّة وحسِّيَّة ، ولها اتّحاد بالعقل والخيال والحسّ. فالنفس عند إدراكها للمحسوسات تصير عين الحواسّ ، والحسُّ آلة وضعية ، تأثرها بمشاركة الوضع. فعند الإحساس يحصل أمران: تأثر الحاسة ، وإدراك النفس. والحاجة إلى الحضور الوضعي إنّما يكون من حيث التأثّر الحسّي ، وهو الانفعال ، لا من حيث الإدراك النفساني ، وهو حصول الصورة (١).
* * *
__________________
(١) الأسفار الأربعة : ٨ / ٢٣٤.