ثمّ إنّ هناك بديهيات أولية يبتني صحة أي استنتاج عليها ، وهي مفروضة في جميع موارد الاستدلال ، مثل مبدأ عدم التناقض ، وأنّ النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد ، وأنّه إذا صحّ كون المادة متغيّرة ، فلا يصحّ نقيضه ، وإذا صحّ أنّ كل متغير بالذات حادث ، فلا يصحّ نقيضه.
وبالجملة ، كل معرفة إنّما تتولد عن معرفة سابقة ، وهكذا تلك المعرفة عن أُخرى ، حتّى تنتهي سلسلة المعارف النظرية إلى المعارف الأَوليّة المعلومة بالذات.
وهذا هو المنهج الّذي درج عليه الفلاسفة الإسلاميون ، واتّضح من مجموع ذلك أنّهم حسيون عقليون.
ونختم هذا البحث الإجمالي لنظرية الإسلاميين في باب المعرفة ، بكلمة قيّمة لصدر المتألّهين تعرب عن كون الحسّ ، مثل العقل ، من أدوات المعرفة عند الإسلاميين ، وأنّ الإدراكات العقلية تنتهي في النهاية إلى الحسّ. قال : «فإنّ الحواس المختلفة الآلات ، كالجواسيس المختلفة الأخبار عن النواحي ، تُعِدّ النفس للاطّلاع على تلك الصور العقلية المجرّدة. والإحساسات إنّما تتكثر ، بسبب اختلاف حركات البدن لجلب المنافع والخيرات ، ودفع الشرور والمضار ، فبذلك ينتفع الحسّ بالحسّ ، ثمّ يُعِدُّها ذلك لحصول تلك التصورات والتصديقات الأوليّة. ثمّ يمتزج بعضها ببعض ، ويتحصّل من هناك تصورات وتصديقات مكتسبة لا نهاية لها» (١).
* * *
٦ ـ الفلاسفة الغربيون
ظهرت في أُوروبا ، في أوائل عصر النهضة الصناعية ، نهضة فكرية فلسفية بعد قرون الانحطاط والتخلف ، وبرز فلاسفة كثيرون يناصرون منهج اليقين في الوصول إلى المعارف والحقائق ، ولكنهم سلكوا في هذا المنهج مذاهب شتّى واعتنقوا نظريات مختلفة ، نعرضها فيما يلي ثمّ نحلل كل واحدة منها :
__________________
(١) الأسفار : ٣ / ٣٨١ ـ ٣٨٢.