تحليل نظرية «ديكارت» في المعرفة
١ ـ امتناع اجتماع النقيضين هو أساس المعرفة
قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ «ديكارت» جعل حجر الأساس ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي ، الّذي أراد أن يخرج به عن إطار الشك المطلق ؛ «أنّه يفكر ، فهو إذن موجود».
ولكن ديكارت غفل عن أنّ هذا الإذعان مسبوق بإذعان آخر ، لولاه لما خرج به عن إطار الشك ، وهو أنّه عند ما يفكر هل يصحّ أن يصف نفسه بأنّه لا يفكر أو لا؟ على الأول ، يهوي حجر الزاوية ، ولا يجد مستقراً مكيناً ، لزوال يقينه بأنّه يفكر.
وعلى الثاني ، يجد في نفسه معرفة قطعية سابقة على ما توهمه أول المعارف ، وهي امتناع أن يوصف شخص واحد ، في آن واحد ، بأنّه يفكر ولا يفكر. وهذا ما نسميه «امتناع اجتماع النقيضين» ، الّذي يُطلق عليه «أم المعارف» و «أم القضايا».
قال صدر المتألهين : «أحقّ الأقاويل ، ما كان صدقه دائماً. وأحق من ذلك ، ما كان صدقه أوليّاً. وأول الأقاويل الحقّة الأوليّة ، الّذي إنكاره مبنى كلِّ سفسطة ، هو القول بأنّه لا واسطة بين الإيجاب والسلب ، فإنّه إليه ينتهي جميع الأقوال عند التحليل ، وإنكاره إنكار لجميع المقدمات والنتائج» (١).
٢ ـ معرفة النفس غنية عن الاستدلال
استدلّ ديكارت على وجوده بتفكيره ، الّذي لا ينفك عن مفكّر. وغفل عن أنّ معرفة النفس غنية عن البرهنة والاستدلال ، فإنّ كل إنسان يجد ذاته حاضرة لدى ذاته ، ولو غاب كل شيء عنه لا تغيب ذاته عنه.
والّذي يوضح ذلك ، أنّ المستدلّ أخذ التصديق بالنتيجة (أنا موجود) في مقدمة استدلاله ، عند ما قال : «أنا» أفكر. فترى أنّه يعترف بذاته ووجوده
__________________
(١) الأسفار : ١ / ٨٩ ـ ٩٠.