الذات واستشهادكم بالقرب والبعد لا يغني عن هذا الإلزام فإنا نلزمكم تمايز الوجوه والاعتبارات بين الإضافي والسلبي إذ من المعلوم كونه علة ومبدأ للمعلول الأول أمر أو حال سلبي وليس يوجب المعلول من حيث أنه انتفى عن الكثرة وليس كونه مسلوب الكثرة عنه موجبا للمعلول ولا يلزم وجوده شيء من حيث يسلب عنه شيء ولا يسلب عنه شيء من حيث يلزم وجوده شيء ويخالف ما نحن فيه حال القرب والبعد بالإضافة إلى شيء دون شيء فإن قرب الجوهر من جوهر قد يكون من باب الإضافة وقد يكون من باب الوضع وقد يكون من باب الأين لكن لفظ القرب والبعد يطلق على كل جوهرين تقاربا أو تباعدا بمقدار ما والمقادير بينهما لا تنحصر في حد فقيل فعند ذلك تختلف بالنسب والإضافات وهي لا تنحصر فلو قلنا إنهما أمران زائدان على وجودهما أدى ذلك إلى إثبات أعراض لا تتناهى لجوهرين متناهيين لكن ما فيه القرب والبعد متناهيين أعني الأين والوضع والإضافة فهي أمور زائدة على ذاتي الجوهرين فعرف أن المثال الذي تمثلوا به لازم عليهم.
على أنا نقول : ألستم أثبتم الإضافة معنى وعرضا زائدا على الجوهر ، فأفيدونا فرقا معقولا بين إضافة الأب إلى الابن وبين إضافة العلة إلى المعلول ، فإن الإضافة هي : المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره مثل الأبوة بالقياس إلى البنوة لا كالأب فإن له وجودا كالإنسانية وكونه مصدرا ومبدأ هو المعنى الذي وجوده بالقياس إلى المعلول وليس له وجود غيره وكذلك كل علة ومعلول سوى العلة الأولى فتعرض له هذا المعنى وهو هذا المعنى بعينه ثم حكمتم بأن الأبوة معنى هو عرض زائد فهلا حكمتم بأن العلية معنى هو عرض زائد حتى يلزم أن يكون الإيجاب بالذات نوع ولادة.
وكثيرا ما دار في خيالي وخاطري أن الذي اعتقدوه النصارى من الأب والابن هو بعينه ما قدّره الفلاسفة من الموجب والموجب والعلة والمعلول (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٠ ـ ٩٢] ، فهو تعالى لم يوجب ولم يوجب ولم يلد ولم يولد وإنما نسبة الكل إليه نسبة العبودية إلى الربوبية ، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم: ٩٣] ، وهو رب كل شيء ومبدعه وإله كل موجود وفاطره جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره.