غير النهاية لا يوجب تكثيرا في ذاته وإنما قلنا إن تعقله لذاته أمر سلبي لأن العقل هو المجرد عن المادة وتجريده عن المادة سلب المادة عنه فلزم أن يكون عالما لتجرده عن المادة وعلائقها إذ المادة هي التي كانت حجابا عن التعقلات فلما ارتفع الحجاب صار العقل مدركا عند ارتفاع الحجاب المحسوس إدراك الحس المحسوس وعند ارتفاع الحجاب المعقول إدراك العقل المعقول وليس يختص ذلك بتعقل الباري تعالى بل كل عقل ونفس إذا تجرد عن المادة عقل وأدرك بمقدار تجرده ثم ذات العقل الأول لا يحتجب عن ذاته أبدا فهو عاقل بنفسه أبدا وكل عقل ونفس مفارق للمادة فحكمه كذلك إلا أن من المواد ما يكون في ألطف ما يكون كالأجسام السماوية فكان حجابها لعقولها ونفوسها أقل تأثيرا إلى أن يصل في الدرجة العليا إلى ما لا يخالط مادة البتة فيكون أكمل الأشياء تعقلا وإدراكا ومن المواد ما يكون في أكثف ما يكون كالأجسام الأرضية فكان حجابها لإدراكاتها أكثر تأثيرا إلى أن ينزل في الدرجة السفلى إلى ما لا يفارق مادة البتة فيكون أكثر الأشياء خمودا وجمودا والعقل الأول وإن فارق المادة من كل وجه إلا أن ذاته باعتبار ذاته ممكن الوجود فلم يخرج عن الإمكان وطبيعة الإمكان عدمية مادية لم يصل تعقله إلى درجة العلة الأولى إذ هو أجل الأشياء إدراكا لا أجل الأشياء كمالا إذ هو يرى عن طبيعة الإمكان والعدم.
قالت الصفاتية : الباري تعالى يعلم ذاته ويعلم ما يلزم منه بعلمين أم بعلم واحد فإن قلتم المعلومان يستدعيان علمين فقد ناقضتم مذهبكم وزريتم علينا وإن قلتم بعلم واحد فيعلم الذات من حيث يعلم اللازم ويعلم اللازم من حيث يعلم الذات فيجب أن تكون الذات لازما واللازم ذاتا لأنه إنما يلزم منه ما يلزم لعلمه بذاته وهو من حيث ذاته يعلم اللازم فيوجد منه الذات كما يوجد منه اللازم أو كان لا يوجد منه اللازم كما لا يوجد منه الذات وإن كان يعلم الذات لا من حيث يعلم اللازم فقد تعدد الاعتبارات فتكثر الذات بتكثر الوجوه والاعتبارات على ما سنفرد مسألة في العلم الأزلي خاصة وتحقيق تعلقه بالمعلومات لكن الذي يختص بمسألتنا هذه إلزام الوجوه والاعتبارات في الصفات التي أثبتموها وقولكم تجرده عن المادة أمر سلبي أي هو مفارق ليس في مادة أصلا لا لشيء جرده عن المادة بل لذاته وبذاته ولا يوجب تكثرا في الذات.
قلنا : من المعلوم أن قولنا عالم يشعر بتبين المعلوم وقولنا ليس في مادة يشعر بنفي المادة عنه والمفهومان متغايران لفظا ومعنى فكيف يقال أحدهما هو الثاني بعينه لعمري يصح أن يقال أحدهما سبب لوجود الثاني على معنى أن المادة إذا ارتفعت ارتفع الحجاب فأدرك الشيء وعقله ، كالمرآة المصدية إذا صقلت وارتفع الصدأ تمثلت