وربما يجيب المتفلسف عن إلزام الفيض المختلف عن العقل الواحد فيقول : أنا أقول كما أن العقل واحد ففيض العقل أيضا واحد لكن القوابل والحوامل تختلف فيختلف الفيض باختلاف المفيض كالشمس إذا أشرقت على زجاجات مختلفة الألوان أعطت كل زجاجة لونا خاصا لائقا بلونها القابل فتعدد الصور واختلافها إنما حصل من جانب المفيض لا من جانب الفائض وأنتم أثبتم كلاما واحدا وهو في نفسه أمر ونهي وخبر واستخبار فتعدد الخواص واختلافها فيها إنما حصل من جانب المتعلق لا من جانب المتعلق فلم تستقم التسوية بين البابين بالتعلق والفيض.
وأما كلامنا في المبدأ ووجوب الصفات له فأبعد في باب التنزيه عن الكثرة وأعلى في منهاج التقديس عن اختلاف الخواص له والصفات كلها راجعة إلى ذات واحدة هي واجبة الوجود بذاتها ووجودها مستند الموجودات كلها من غير أن يثبت له منها كمال أو يحدث له صفة وهو تعالى بكمال جلاله عديم الاسم والصفة من حيث ذاته ، وإنما يقال له اسم وصفة من حيث آثاره فقط وآثاره فاعليته الصادرة عنه لا معا بل على ترتيب الأول والثاني والراجعة إليه لا بغتة بل على تدريج الثاني والأول من غير أن يحدث كمال في ذاته لم يكن أو يستكمل من حادث كمالا كان جل جلاله بذاته وتقدست أسماؤه لصفاته.
قالت الأشعرية : نحن لا نثبت الحقائق المختلفة والخواص المتباينة لكلام واحد إنما يلزمنا التضاد بين أمرين يتقابلان من كل وجه فيتضادان فأما إذا لم يتقابلا بل اختلفت المتعلقات واختلفت الوجوه فلا يبعد اجتماعهما في حقيقة واحدة ونحن لو قلنا الأمر بالشيء والنهي عن ضده أو الأمر بالشيء والنهي عنه شيء آخر أو أمر شخص واحد بشيء ونهي شخص آخر عن ذلك الشيء لا يستحيل وكذلك إذا اختلف الزمان والمكان والوجه والاعتبار لم يحصل التضاد فلم يلزم الاستحالة وهذا إن ألزم علينا التضاد وإن ألزم علينا الاختلاف بين الحقيقتين دون التضاد فالجواب عنه أن اجتماع مثل ذلك في شيء واحد من وجوه مختلفة غير مستحيل فإن الجوهر يوصف بأنه متحيز وقابل للأعراض وذو حجم ومساحة ونهاية وهي صفات وأحوال ووجوه واعتبارات مختلفة وما استحال اجتماعها في حقيقة الجوهرية وقد قدمنا الفرق بين الأقسام وبين الأوصاف وقولهم إن كون الكلام أمرا ونهيا وخبرا أقسام الكلام إذ يقال الكلام ينقسم إلى كذا أو إلى كذا وكل قسم إنما يتميز عن قسم بأخص وصفه في قول صحيح في الكلام شاهدا فإن الكلام القولي في اللسان أو النطق النفساني في الذهن من جملة الأعراض التي يستحيل بقاؤها ولا تتحد ذاته وتتعدد جهاته بل ذاته متعددة بتعدد جهاته فما هو أمر بشيء غير وما هو نهي عن شيء غير ويضاد الأمر