كذا أو يستحيل أو يجب إلى غير ذلك من الأفكار حتى أن كل صانع يحدث مع نفسه أولا بالغرض الذي توجهت إليه صنعته ثم تنطق نفسه في حال الفعل محادثة مع الآلات والأدوات والمواد والعناصر ومن أنكر أمثال هذه المعاني فقد جحد الضرورة وباهت العقل وأنكر الأوائل التي في ذهن الإنسان وسبيله سبيل السوفسطائية كيف وإنكاره ذلك مما لم يدر في قلبه ولا جال في ذهنه ثم لم يعبر عنه بالإنكار ولا أشار إليه بالإقرار فوجد أن المعنى معلوم بالضرورة ، وإنما الشك في أنه هو العلم بنفسه أو الإرادة والتقدير والتفكير والتصوير والتدبير والتمييز بينه وبين العلم هين إذ العلم تبين محض تابع للمعلوم على ما هو به وليس فيه إخبار ولا اقتضاء وطلب ولا استفهام ولا دعاء ولا نداء وهي أقسام معلومة وقضايا معقولة وراء التبيين والتمييز بينه وبين الإرادة أسهل وأهون فإن الإرادة قصد إلى تخصيص وأما التقدير والتفكير والتدبير فكل ذلك عبارات عن حديث النفس ، وهو الذي يعني به من النطق النفساني ومن العجب أن الإنسان يجوز أن يخلو ذهنه عن كل معنى ولا يجد نفسه قط خاليا عن حديث النفس حتى في النوم فإنه في الحقيقة يرى في منامه أشياء وتحدث نفسه بالأشياء ولربما يطاوعه لسانه وهو في منامه حتى يتكلم وينطق متابعة لنفسه فيما يحدث وينطق.
ومن مذاهب المعتزلة : أن المفكر قبل ورود السمع يجد من نفسه خاطرين أحدهما يدعوه إلى معرفة الصانع وشكر المنعم وسلوك سبيل المحاسن والخيرات والثاني يدعوه إلى خلاف ذلك ثم يختار ما فيه النجاة ويجتنب عما فيه الهلاك وذلك الخاطران الداعيان المحدثان المخبران عن كلام النفس وحديثها فكيف يسوغ لهم إنكار ذلك وأيضا فإن الإنسان في مراتب نظره واستدلاله يضع قولا ويرفع قولا ويقسم كليا ويبطل أحد القسمين فيتعين له الثاني فتقسيمه هو بعينه حديث النفس وتعيينه أحد القسمين هو بعينه حكم العقل وربما أخذ القلم وكتب مجلدة من حديث فكره وشحن ديوانا من حديث نفسه ولسانه ساكت لا ينطق.
وصدق من قال :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما |
|
جعل اللسان على الفؤاد دليلا (١) |
__________________
(١) انظر : الصواعق المرسلة لابن قيم (١ / ٣٤٤ ، ٣٤٥) ، وشرح قصيدة ابن قيم لابن عيسى (ص ٢٧٠) ، وشرح العقيدة الطحاوية (ص ١٩٨) ، وغاية المرام للآمدي (ص ٩٧) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (٣ / ١٢٢) ، وأصول الدين للأسفراييني (ص ١٠٢) ، والغنية في أصول الدين لأبي سعيد النيسابوري (ص ١٠٢) ، والتمهيد للباقلاني (ص ٢٨٤) ، ولمع الأدلة للجويني (ص ١٠٤).