فالعبارة والإشارة والكتابة دلالة بقرائنها تدل على أن لها مدلولا خاصا متميزا عن العلم والإرادة ولكل عبارة خاصة مدلول خاص متميز عن سائر المدلولات وهذا أوضح ما تقرر فإن دلالات العبارات على النطق دلالة المواضعة والتوقيف ويختلف بالأمم والأمصار ودلالة الإحكام على العلم دلالة العقل فلا يختلف ذلك بالأمم والأمصار ومدلول العبارات مع اختلافها مدلول واحد فإن المعنى الذي يفهم من قولك الله هو بعينه المعنى الذي يفهم من خذ أي وتنكري وسرنا وند إلى غير ذلك من الألفاظ فعلم من ذلك أن الكلام الذي في نفس الإنسان قول محقق ونطق موجود هو أخص وصف لنفس الإنسان حتى تميز به عن سائر الحيوانات ومن أنكره فقد خرج عن حد الإنسانية ودخل في حريم البهيمية ، وكفر أخص نعم الله تعالى على نوع الإنسان.
قالت المعتزلة : نحن لا ننكر الخواطر التي تطرأ على قلب الإنسان وربما نسميها أحاديث النفس إما مجازا وإما حقيقة غير أنها تقديرات للعبارات التي في اللسان ألا ترى أن من لا يعرف كلمة بالعربية لا يخطر بباله كلام العرب ومن لا يعرف العجمية لا يطرأ عليه كلام العجم ومن عرف اللسانين تارة تحدث نفسه بلسان العرب وتارة بلسان العجم فعلم على الحقيقة أنها تقديرات وأحاديث تابعة للعبارات التي تعلمها الإنسان في أول نشوئه والعبارات هي أصول لها منها تصدر وعليها ترد حتى لو قدرنا إنسانا خاليا عن العبارات كلها أبكم لا يقدر على نطق لم نشك أن نفسه لا تحدثه بعربية ولا عجمية ولا لسان من الألسن وعقله يعقل كل معقول وإن كان يعرى عن كل مسموع ومنقول فعلم أن الكلام الحقيقي هو الحروف المنظومة التي في اللسان والمتعارف من أهل اللغة والعقلاء أن الذي في اللسان هو الكلام ومن قدر عليه فهو المتكلم ومن لم يقدر عليه فهو الأعجم الأبكم فعلم من ذلك أن الكلام ليس جنسا ونوعا وفي نفسه ذا حقيقة عقلية كسائر المعاني بل هو مختلف بالمواضعة والاصطلاح والتواطؤ حتى لو تواطأ قوم على نقرات وإشارات ورمزات لحصل التفاهم بها كما حصل التفاهم بالعبارات.
ومن الدليل على ذلك أن الله تعالى سمى تغريد الطير وأصوات الحكل ودبيب النمل كلاما وقولا حتى قال سليمان بن داود عليهماالسلام (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل : ١٦] ، (قالَتْ نَمْلَةٌ) [النمل : ١٨] ، وقال الهدهد : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) [النمل : ٢٢] ومثل ذلك يجري مجازا في الجمادات أيضا : (قالَتا أَتَيْنا