فإن قيل : ما الدليل على أن الاتصاف بضد السمع والبصر من النقائص.
قيل : لما علم أن السمع والبصر من صفات المدح ، فذلك دليل على أن الاتصاف بأضداد ذلك نقائص وآفات ويجب تعاليه عنها وقد وصف الرب تعالى نفسه بالسمع والبصر على وجه التمدح كما وصف نفسه عالما قادرا حيا على وجه التمدح فلو لا أنهما صفتا مدح لما تمدح بهما فيلزم أن يكون ضدهما صفتا ذم ونقص والنقص دليل الحدوث ولو قدرنا الإدراك صفة زائدة على العلم أو قلنا : إنه العلم ففي نفيه نقص وقصور ، فلن يتحقق نقص إلا ممكنا محتاجا إلى مكمل لتعود الذات إلى الكمال وذات الباري تعالى وصفاته منزهة عن شوائب الإمكان ولا نقص في ذاته وصفاته.
قال الكعبي : إنما يصح لكم إثبات إدراك غائبا بعد إثباته شاهدا ، ونحن لا نساعدكم أن السمع والبصر إدراكان زائدان على العلم.
أما الكعبي فقد قال : الذي يجده الإنسان من نفسه إدراكه للمسموع والمبصر بقلبه وعقله ولا يحس بصره بالمبصر بل يحس المبصر ويسمع السامع لا الآذان وذلك هو العلم حقيقة ولكن لما لم يحصل له ذلك العلم إلا بوسائط بصره سمي البصر حاسة وإلا فالمدرك هو العالم وإدراكه ليس زائدا على علمه.
والدليل على ذلك أن من علم شيئا بالخبر ثم رآه بالبصر وجد تفرقة بين الحالتين إلا أن تلك التفرقة ليست تفرقة جنس وجنس ونوع ونوع بل تفرقة جملة وتفصيل وعموم وخصوص وإطلاق وتعيين وإلا فشعور النفس بهما في الحالتين واحد.
قال : ولو كان المدرك مدركا بإدراك للزم أن يحضر عند الحاسة السليمة قينة تلعب وأنعام تسرح وطبول تضرب وصور تنفخ فيه وهو لا يراها ولا يسمعها ، إذ لم يخلق له إدراك ذلك ، وكذلك يجوز أن يرى الشخص البعيد ولا يرى القريب لأنه خلق له إدراك البعيد دون القريب وقد علمنا ضرورة أن الأمر على خلاف ذلك.
وقال الجبائي : إن الحي إذا سلمت نفسه عن الآفة سمي سميعا بصيرا ولا معنى للإدراك شاهدا وغائبا إلا ذلك.
والدليل عليه أن الذات إذا سلمت أدركت كل معروض عليها من المتماثلات والمختلفات وإدراكها السواد كإدراكها البياض ولو كان مدركا بإدراك لجاز أن يدرك بعض الأشياء دون بعض مما يقابل المدرك فكان يجوز أن يدرك بياضا ولا يدرك سوادا وهما متقابلان للحاسة في حالة أو حالتين متعاقبتين كما أن العالم منا جاز أن يعلم شيئا دون شيء.
قالوا : وإن سلمنا ثبوت الإدراك في الشاهد فلم نسلم أن المصحح مجرد كون