الحيوان حيا فقط وهاهنا شرط آخر وهو حصول البنية وشرط للشرط وهو توسط الهوى المضيء بين المبصر والمبصر والهوى الصافي بين السمع والمسموع كما شرطنا في الشم واللمس والذوق اتصال الأجرام ومماستها بالاتفاق ، وإذا استدعت الثلاث من الحواس شرطا حتى يتحقق الإدراك ولأجل ذلك امتنع إثباته غائبا كذلك الحاستان الباقيتان استدعتا شرائط أخر سوى كونه حيا حتى يتحقق الإدراك فأنتم مدفوعون إلى إقامة الدليل على حصر الشرائط في كونه حيا فقط وإلا فارفعوا كون الحياة شرطا ، كما رفعتم كون البنية وتوسط الهوى شرطا واجعلوا وجود الحياة شرطا من حيث العادة لا من حيث الضرورة كما جعلتم البنية شرطا من حيث العادة وهذا الموضع من مشكلات مسائل الإدراكات.
قال الأشعري : الإدراكات من قبيل العلوم على قول ورأي وهو جنس آخر على قول فمن قال بالقول الأول فيقول هو مماثل للعلوم ولا يفترقان إلا في أن أحد العلمين يستدعي تعيين المدرك والعلم من حيث هو علم لا يستدعي تعيين المدرك فلا جرم بقول العلم يتعلق بالمعدوم والإدراك لا يتعلق به إذ المعدوم لا يتعين ولا تظنن أن هذا الرأي هو مذهب الكعبي ، فإنه لم يثبت لإدراك معنى أصلا والأشعري أثبت المعنى وقال : هو من جنس العلوم فعلى هذا القول الرب تعالى سميع بصير بإدراكين هما علمان مخصوصان وراء كونه عالما هو مدلول الإحكام والإتقان ، ومن قال بالقول الثاني استدل بأن العلم بالشيء إذا أضيف إلى علم آخر به واتحد المتعلق واستوى العلمان في صفات النفس لم يتصور اختلافهما ، فلما وجدنا في أنفسنا اختلافا بين العلم والإدراك وأحسسنا تفرقة بين المعلوم خبرا وبين المرئي عيانا مع اتحاد المتعلق واستواء الأمر في الحدوث علمنا أن الجنسين مختلفان وأيضا فإن الأكمه لو أحاط علما بما أحاط به البصير حصل له كل علم سوى الإدراك فدل أنه زائد على العلم على أن هذا يشكل بقاعدة من لم يجعل البنية شرطا فإنه جوز أن يخلق الله تبارك وتعالى الرؤية في القلب والعلم في البصر فحينئذ يلتبس العلم بالإدراك ويلزم أن يسمع السامع بالبصر ويبصر بالسمع ويشم بحاسة الذوق ويذوق بحاسة الشم ويلزم أن تكون حاسة واحدة هي سامعة مبصرة شامة ذائقة لامسة وإنما اختص كل إدراك بحاسة خاصة في خلقه ، وكذلك يجوز أن تكون أمور حاضرة لا نحسها وأمور غائبة نبصرها ولكن العادة الجارية أمنتنا من ذلك أليست الملائكة كانت تحضر مجلس النبوة والقوم حضور والأعين سليمة وهم لا يبصرون أليست الشياطين والجن يطوفون في البلاد ويسرحون في الأرض وأن إبليس هو يرانا وقبيله من حيث لا نراه فبطلت تلك التهويلات