فهو كفران صريح ، فلا النعمة تقبل المقابلة ولا المعاوضة ولا المنعم يقبل النفع والضر ، وكيف يحسن الشكر والشكر إنما ينفع الشاكر أن لو حصل على رضى المشكور وإذنه فإذا لم يعرف رضاه وإذنه إلا بالسمع فلا يحسن الشكر إلا بالشرع ولكن لما تربى الإنسان على مناهج الشرع ورأى أهل الدين يستحسنون الشكر ، وقرأ آيات تحسين الشكر ظن أن مجرد العقل يقضي بذلك.
أما الجواب عن مقالة الفلاسفة قولهم : إن الوجود قد اشتمل على خير محض وشر محض وخير وشر ممتزجين فهو كلام من لم يتحقق الخير والشر ما هو؟ فما المعنى بالخير أولا؟ فإن الخير يطلق على كل موجود عندكم وعلى هذا الشر يطلق على كل معدوم وعلى هذا لم يستمر قولكم الوجود يشتمل على خير مطلق فكأنكم قلتم اشتمل الوجود على الوجود وهو تكرار غير مفيد ولم يستتب قولكم وعلى شر مطلق فإن الشر المطلق هو المعدوم والوجود كيف يشتمل على العدم فلم يصح التقسيم رأسا على أنا إنما فرضنا المسألة في الحركات التي ورد عليها التكليف فإن الخير والشر فيها هو المقصود بالحسن والقبح وقد ساعدتمونا على أن حكمها في الأفعال غير معلوم بالضرورة ولا العقل يهتدي إليه بالنظر لأن ذلك يختلف بالإضافات والأزمان فبقي قولكم العلم من حيث هو علم محمود وكل محمود مطلوب لذاته والجهل بالعكس من ذلك فهو مسلم ، ولكن الطالب إذا حصل له المطلوب فهل يستوجب على الله ثوابا أم لا وإن لم يحصل بل حصل ضده هل يستوجب عقابا أم لا لأن التنازع إنما وقع من حيث التكليف لا من حيث ذات الشيء وصورته (١).
قالوا : معنى الجزاء عندنا ترتب سعادة وشقاوة أبدية على نفس عالمة أو جاهلة كترتب صحة وسلامة في البدن على شرب دواء وذلك حاصل له بالضرورة وكترتب مرض وألم في البدن على شرب سم وذلك حاصل له بالضرورة أيضا.
قيل : إذا كان سعادة النفس مترتبة على حصول قوى العلم والعمل وخروجهما من القوة إلى فعل يحتاج إلى معاناة أمور شديدة ومقاساة أحوال عسيرة من تحصيل المقدمات والوقوف على كيفية تأديها بالطلب أو المطلوب ، ولم تكن الفطرة الإنسانية بمجردها كافية في التحصيل وتعارض الأمر عند العقل يوقف العاقل لئلا يقع في طريق يفضي به إلى الجهالة الموجبة للشقاوة فإن التوقف أولى من اقتحام الخطر في المهالك ،
__________________
(١) انظر : غاية المرام (ص ٢١٣) ، والملل والنحل للمصنف (٢ / ١٨١ ، ١٨٢) ، وإيثار الحق على الخلق لمحمد القاسمي (ص ٢٣١) ، ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت.