إنما يمكن تصوره في الوهم والتقدير لا في الوجود كالعدد يقال له : إنه لا ينتهي تضعيفا وليس نعني به أن العدد غير المتناهي موجود محصور بل المعنى أنك إذا قدرت أو توهمت ضعفا فوق ضعف إلى ما لا يتناهى أمكنك ذلك كذلك المعلولات والمقدورات على التقدير الوهمي لا يتناهى ولصلاحية العلم أن يعلم به كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه يقال : إن العلم لا يتناهى وذلك لصلاحية القدرة أن يقدر بها على كل ما يصح أن يقدر عليه يقال إن القدرة لا تتناهى فلا القدرة ولا العلم أمر بسيط ذاهب في الجهات لا يتناهى ، ولا المعلومات والمقدورات أعداد كثيرة لا تتناهى ، وهكذا ينبغي أن تفهم من معنى قولنا ذات الباري سبحانه لا تتناهى أي هو واحد لا يقبل الانقسام بوجه من الوجوه ، فلا يتطرق إليه نهاية بوجه من الوجوه.
شبه الدهرية قالوا : إذا قلتم إن العالم محدث بعد أن لم يكن فقد تأخر وجوده عن وجود الباري تعالى فلا يخلو إما أن يتأخر بمدة أو لا بمدة فإن تأخر لا بمدة فقد قارن وجوده وجود الباري تعالى ، وإن تأخر بمدة فلا يخلو إما أن تأخر بمدة متناهية أو بمدة غير متناهية فإن تأخر بمدة متناهية فقد وجب تناهي وجود الباري سبحانه وإن تأخر بمدة غير متناهية فنفرض في تلك المدة موجودات لا تتناهى فإنه إن لم يمتنع مدة لا تتناهى لم يمتنع عدة لا تتناهى (١).
والجواب قلنا : هذا الكلام غير مستقيم وضعا وتقسيما أما الوضع فقولكم لو كان العالم محدثا كان وجوده متأخرا فإن عنيتم به التأخر بالزمان فغير مسلم ، فإنا قد بينا أن التقدم والتأخر والمعية الزمانية تمتنع في حق الباري سبحانه.
وعلى هذا لم يصح بنا التقسيم عليه أنه متأخر بمدة أو لا بمدة فإن ما لا يقبل المدة ذاتا ووجودا لا يقال له تقدم أو تأخر أو قارن بمدة أو لا بمدة فأحلتم علينا تقدما وتأخرا ومعية زمانية للباري تعالى وإذا منعنا ذلك ألزمتم علينا مقارنة في الوجود وذلك تلبيس فإنا إذا منعنا التقدم والتأخر الزماني منعنا المقارنة الزمانية ، بل وجود الباري تعالى لا يقال متقدم بالزمان كما لا يقال أيضا فوق بالمكان ولا يقال مقارن بالزمان كما لا يقال مجاور للعالم بالمكان وإن عنيتم بالتأخر في الوجود أي الموجد مفيد الوجود والموجد مستفيد الوجود والموجد لا أول لوجوده والموجد له أول فهو
__________________
(١) انظر : شرح قصيدة ابن قيم (ص ٣٦٠) ، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٥٧ ، ٢٩٤) ، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (٢ / ١٤٤) ، والملل والنحل للشهرستاني (٢ / ١٥١) ، وتلبيس الجهمية لابن تيمية (١ / ٣٠٠) ، والتبصير في الدين (ص ١٤٩).