ويطلق البداء على الندم على ما كان والندم هو أن يقول قولا أو يفعل فعلا لغرض ثم يرى أن المصلحة في غير ما صدر عنه قولا وفعلا وهذا أيضا لا يجوز في وصف الباري تعالى فإنه لا يفعل فعلا لغرض وإذا فعل بخلاف ذلك لم يفعله لمصلحة وغرض آخر بل أقواله وأفعاله لا تعلل كما بينا قبل فلم يتصور في حقه الندم ولا أفضى النسخ إلى الندم فتعين القول بأن النسخ غير مستحيل عقلا ثم وقوعه شرعا من أدل الدليل على أنه غير مستحيل عقلا.
فنقول لا شك أن موسى عليهالسلام تأخر وجودا عن آدم ونوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل ويعقوب وجماعة من الأنبياء والأسباط عليهمالسلام أهل كان جميع ما ورد به موسى مشروعا لهم أو منها ما كان مشروعا ومنها ما لم يكن مشروعا فإن كان كله مشروعا لهم فلم يرد موسى بشريعة أصلا بل قرر الشرائع الماضية وإن ورد بحكم واحد غير ما ثبت في شرعهم فقد تحقق أن الحكم الأول مرفوع بذلك الحكم أو قد انتهى مدة الحكم الأول وتجدد هذا الحكم فثبت النسخ وإن أنكروا ذلك فنكاح الأخوات في زمن آدم عليهالسلام حتى قيل إنه استمر ذلك الحكم إلى زمن نوح مما يجب الاعتراف به ليتحقق النسل والذرية وتوبة عبدة العجل بقتل أنفسهم كان حكما لم يكن قبل ذلك وصار مرفوعا عن غيرهم في التوراة والختان في اليوم السابع من الولادة حكم لم يكن لنوح وغيره بل ترك الختان كان مشروعا لهم وأمر بذلك إبراهيم عليهالسلام على الكبر وأطلق له أنه لا يختن إسماعيل في طفولته حتى يصير مراهقا وحظر على موسى ترك الختان فوق سبعة أيام والتمسك بالسبت ما كان واجبا على الأنبياء قبل موسى عليهالسلام ثم صار واجبا على موسى فما المستحيل أن يعود إلى ما كان مباحا وكذلك الصيد في يوم السبت وجميع الأفعال الدنياوية كان مباحا قبل موسى عليهالسلام فصار محظورا على موسى والمواعدة من أدل الدلائل على النسخ (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢] ، وكذلك تلك التكاليف الشديدة على بني إسرائيل ما كانت واجبة على من قبلهم.
والسر في ذلك كله أن الحظر والوجوب أحكام لا ترجع إلى الأفعال حتى تكون صفات لها ولا الأفعال كانت على صفات من الحسن والقبح ورد الشرع بتقريرها ولا قول الشارع أكسبها صفات لا تقبل الرفع والوضع بل الأحكام راجعة إلى أقوال الشارع وتوصف الأفعال بها قولا لا فعلا شرعا لا عقلا فيجوز أن يرتفع بعضها