النظر أول الواجبات
فمن ذلك : أنهم يعتقدون أن أول ما يجب على العاقل البالغ المكلف القصد إلى النظر والاستدلال المؤديين إلى معرفة اللّه عز وجل (١) ؛ لأن اللّه عز وجل أمرنا بالعبادة ، قال عز وجل : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة : من الآية ٥) والعبادة لا تصح إلا بالنية ، لقوله علية الصلاة والسلام «إنما الأعمال بالنيات» (٢) ، والنية هي القصد. تقول العرب : نواك اللّه بحفظه أي قصدك اللّه بحفظه. وقصد من لا يعرف محال ، فدل ذلك على وجوب النظر والاستدلال ، ولأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبا كالواجب ، ألا ترى أن الصلاة لما كانت واجبة ثم لا يتوصل إليها إلا بالطهارة صارت الطهارة واجبة كالواجب. فكذلك أيضا في مسألتنا ، لأنه إذا كانت معرفة الرب عز وجل واجبة ثم بالتقليد لا يتوصل إليها دل على وجوب النظر والاستدلال المؤديين إلى ذلك. فقد أمرنا اللّه عز وجل بذلك ، ودعا إليه ، فقال عز وجل :قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ(يونس : من الآية ١٠١). (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (الواقعة : ٥٨ ، ٥٩) (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (الواقعة : ٦٨ ، ٦٩) (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (الغاشية : ١٧ ، ١٨) الآية ، وقال عز وجل إخبارا عن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (فَلَمَّا جَنَّ
__________________
(١) ويعزى للأشعري. وثانيها : المعرفة وهو قول الأشعري. وثالثها : إنه أول اللفظ ، أي المقدمة الأولى منه. ورابعها : ما قاله إمام الحرمين أنه القصد إلى النظر ، أي تفريغ القلب عن الشواغل. وخامسها : إنه التقليد ، قاله بعضهم. وسادسها : إنه النطق بالشهادتين. وسابعها : إنه الشك ، قاله أبو هاشم ، في طائفة من المعتزلة.
وردّ : بأنه مطلوب زواله ، لأن الشك في شيء من العقائد كفر ، فلا يكون مطلوبا حصوله ، ولعلهم أرادوا ترويد الفكر فيؤول إلى النظر.
وثامنها : إنه الإيمان. وتاسعا : أنه الإسلام. وهذان القولان متقاربان مردودان باحتياج كل من الإيمان والإسلام للمعرفة. وعاشرها : اعتقاد وجوب النظر. وحادي عشرها : إنه المعرفة أو التقليد. أي أحدهما لا بعينه فيكون مخيرا بينهما.
قال الشيخ البيجوري : والأصح أن أول واجب مقصدا : المعرفة ، وأول واجب وسيلة قريبة : النظر ، ووسيلة بعيدة : القصد إلى النظر ، وبهذا يجمع بين الأقوال الثلاثة.
(٢) أخرجه البخاري (١ / ٣٠) ـ ح (٥٤) ، ومسلم (٣ / ١٥١٥) ـ ح (١٩٠٧).