مخلوق للّه تبارك وتعالى ، وليس بقائم بنفسه ولا حي ولا قادر ولا عالم ولا متكلم ، وما هذه حالته فلا يصح أن يوجب على العقلاء ولا على غيرهم شيئا ولا أن يحرم شيئا ولا يقبح شيئا ، ولا يعلم به غير المعلومات التي لا تتعلق به كجميع العلوم. إذا كان الأمر كذلك لم تصر الأفعال حسنة واجبة بإيجابه ، ولا محرمة قبيحة بتحريمه ، ولا مباحة كسائر الحوادث لأنه محدث مخلوق كسائر العلوم والحوادث ، ولو وجب عليهم شيء من جهة العقل قبل مجيء الرسل فكان حجة عليهم مجردة في ذلك لما قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء : من الآية ١٦٥) بل كان الواجب أن يقول لئلا يكون للّه حجة بعد العقل. ولما بطل ذلك دل على أن العقل ليس له تأثير في شيء مما ذكرناه.
فإن قيل : لم قلتم إن اللّه عز وجل مريد للمعاصي خالق لها فبأي شيء يستحق العبد العقوبة؟
يقال لهم : هل تثبتون أن اللّه عز وجل مريد للطاعة خالق لها أم لا؟
فإن قيل ليس مريدا لها ولا خالق أيضا فلا كلام معهم والأولى السكوت عنهم ؛ لأنهم قد كذبوا الرب في خبره ، وقال عز وجل (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : من الآية ١٠٢).
وإن قيل : إنه مريد لإيجادها وخالق لها يقال : فالعبد بأي شيء ينال الثواب والدرجات ، وكل دليل لهم هنا هو دليل لنا هناك فكما أنه يقدرنا على فعل الطاعة ويخلقها لنا ثم يثيبنا عليها بفضله فكذلك أيضا يقدرنا على المعصية ، ويخلقها لنا ثم يعاقبنا عليها بعدله لأنه متصرف في ملكه على الإطلاق. وقد روى في الخبر أن اللّه عز وجل أوحى إلى أيوب : «لو لم أخلق لك تحت كل شعرة صبرا لما صبرت» ثم بعد ذلك يمدحه ويثنى عليه بقوله (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) (ص : من الآية ٤٤) فإذا كان الرب عز وجل خلق الصبر له فبأي شيء نال هذا المدح والثناء فدل على أن الأمر ما ذكرناه (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣).
فإن قيل : وجدنا أحدنا إذا قال لغلامه : اكسر هذا الإناء فكسره ثم عاقبه يكون ظالما ، فإذا قلنا إن اللّه عز وجل مريد للمعاصي ثم يعاقب عليها يكون ظالما؟.
يقال : حقيقة الظلم هو تجاوز الحد ، فالسيد إذا قال لغلامه اكسر هذا الإناء وعاقبه يكون ظالما لأن فوقه آمرا وهو اللّه عز وجل أمره أن لا يتجاوز مع عبده الحد فإذا تجاوزه يكون ظالما ، ثم يقال لهم : هذا السيد أمر عبده بكسر الإناء فكان عقوبته ظلما له والرب عز وجل لم يأمر بالمعاصي قال اللّه عز وجل (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ