ذلك أنهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل ، وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يصرح بالنص على أحد ، وإنما ثبتت الخلافة بالإجماع لا بالنص. وقد قيل إنها ثبتت بالنص ، ولكنه نص خفيّ يحتاج إلى تأويل وتأمل مثل قوله عليه الصلاة والسلام «مروا أبا بكر فليصل بالناس ، لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدمهم غيره اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١)، وكقوله في علي رضي اللّه عنه : «أنت مني بمنزلة هارون وموسى» (٢) «من كنت مولاه فعلى مولاه» (٣) والصحيح أنه لم ينص على أحد ، والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في نفسه قويا في أمر اللّه ، وإن تولوها عمر تجدوه قويا في بدنه قويا في أمر اللّه ، وإن تولوها عثمان تجدوه هاديا مهديا ، وإن تولوها عليا يهدكم إلى الصراط المستقيم» (٤) فأخبر أن كل واحد منهم يصلح للإمامة على الانفراد ، ولم ينص على أحد لأنه لو نص على أحد لما قال إن تولوها ، ولما قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير ، فدل على أن الخلافة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر رضي اللّه عنه بالإجماع لا بالنص ، والإجماع حجة. قال اللّه عز وجل : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (النساء : ١١٥).
فإن قيل : عليّ أولى بالخلافة لأنه أعلم من أبي بكر وأشجع ، وكان أقرب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبي بكر ؛ لأنه كان ابن عمه.
يقال لهم : هذا ليس بصحيح ، والدليل على أن أبا بكر كان أعلم الصحابة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم وأشجعهم قوله يوم الردة : ولو منعوني عقالا أو عناقا مما أعطوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم عليه ولو خلاني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي. فقال عمر رضي اللّه عنه سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» (٥). فقال له أبو بكر رضي اللّه عنه: سمعته يقول إلا بحقها ، والزكاة من
__________________
(١) أخرجه البخاري (١ / ٢٣٦) ـ ح (٦٣٣) ، ومسلم (١ / ٣١٣) ـ ح (٤١٨).
(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١٣٥٩) ـ ح (٣٥٠٣) ، ومسلم (٤ / ١٨٧٠) ـ ح (٢٤٠٤).
(٣) أخرجه الحاكم في مستدركه (٣ / ١٨٨) ـ ح (٤٥٧٧) ـ وقال : صحيح على شرط الشيخين.
والترمذي (٥ / ٦٣٣) ـ ح (٣٧١٣) ، وقال : حديث حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (٥ / ٤٥) ـ ح (٨١٤٥) ، وابن ماجة (١ / ٤٥) ـ ح (١٢١) ، والإمام أحمد في مسنده (١ / ٨٤) ـ ح (٦٤١).
(٤) أخرجه الضياء في المختارة (٢ / ٨٦) ح (٤٦٣) ، وعبد اللّه بن أحمد في السنة (٢ / ٥٤١) ح (١٢٥٧).
(٥) أخرجه البخاري (١ / ١٧) ـ ح (٢٥) ، ومسلم (١ / ٥٢) ـ ح (٢١).