القاعدة الخامسة
في إبطال مذهب التعطيل وبيان وجوه التعطيل
وقد قيل : إن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى فمنها تعطيل الصنع عن الصانع ومنها تعطيل الصانع عن الصنع ، ومنها تعطيل الباري سبحانه عن الصفات الأزلية الذاتية القائمة بذاته ، ومنها تعطيل الباري سبحانه عن الصفات والأسماء أزلا ، ومنها تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي دلت عليها.
أما تعطيل العالم عن الصانع (١) العالم القادر الحكيم فلست أراها مقالة لأحد ، ولا أعرف عليه صاحب مقالة إلا ما نقل عن شرذمة قليلة من الدهرية أنهم قالوا : العالم كان في الأزل أجزاء مبثوثة تتحرك على غير استقامة واصطكت اتفاقا فحصل عنها العالم بشكله الذي تراه عليه ودارت الأكوار وكرت الأدوار وحدثت المركبات ولست أرى صاحب هذه المقالة ممن ينكر الصانع ، بل هو معترف بالصانع لكنه يحيل سبب وجود العالم على البحث والاتفاق احترازا عن التعليل ، فما عددت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان ، فإن الفطر السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على صانع حكيم عالم قدير (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠] ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] ، وإن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [يونس : ٢٢] ، (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ
__________________
(١) انظر : شرح قصيدة ابن قيم لإبراهيم بن عيسى (٢ / ٢٤٠ ، ٢٤٣) ، ومنهاج السنة النبوية (١ / ٤١٠).