والرسل مبعوثون لتذكير وضع الفطرة وتطهيرها عن تسويل الشيطان فإنهم الباقون على أصل الفطرة ، وما كان له عليهم من سلطان ، وقال : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْيَخْشى) [الأعلى : ٨ ، ٩] ، (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، ومن رحل إلى الله قربت مسافته حيث رجع إلى نفسه أدنى رجوع ، فعرف احتياجه إليه في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله وأنحائه ، ثم استبصر في آيات الآفاق إلى آيات الأنفس ، ثم استشهد به على الملكوت لا بالملكوت عليه (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] ، عرفت الأشياء بربي وما عرفت ربي بالأشياء ، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ، ومن تعالى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط ، فثبت بالدلائل والشواهد أن العالم لا يتعطل عن الصانع الحكيم القادر العليم سبحانه وتقدس (١).
وأما تعطيل الصانع عن الصنع فقد ذهب وهم الدهرية القائلين بقدم العالم إلى أن الحكم بقدم العالم في الأزل تعطيل الصانع عن الصنع وقد سبق الرد عليهم بأن الإيجاد قد تحقق حيث تصور الإيجاد وحيث ما لم يتصور لم يكن تعطيلا وكما أن التعطيل ممتنع كذلك التعليل ممتنع وأنتم عللتم وجود العالم بوجوده وسميتم معبودكم علة ومبدئا وموجبا ، وذلك يؤدي إلى أمرين محالين أحدهما بثبوت المناسبة بين العلة والمعلول وقد سبق تقريره ، والثاني : أن العلة توجب معلولها لذاتها ، والقصد الأول وجود العالم من لوازم وجوده بالقصد الأول فإن العالي لا يريد أمرا لأجل الأسفل ، فبطل أيضا التعليل ، وهذا من الإلزامات المفحمة التي لا جواب عنها.
أما تعطيل الباري سبحانه عن الصفات الذاتية والمعنوية وعن الأسماء والأحكام ، فذلك مذهب الإلهيين من الفلاسفة ، فإنهم قالوا : واجب الوجود لذاته واحد من كل وجه فلا يجوز أن يكون لذاته مبادئ تجتمع فيتقدم واجب الوجود لا أجزاء كمية ولا أجزاء حد سواء كانت المادة والصورة أو كانت على وجه آخر بأن يكون أجزاء لقول الشارح لمعنى اسمه ويدل كل واحد منهما على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته وذلك لأن ما هذا صفته فذات كل واحد منه ليس ذات الآخر ولا ذات المجتمع ، وإنما تعينه واجب بالذات فليس يقتضي معنى آخر سوى وجوده ، وإن وصف بصفة
__________________
(١) انظر : الملل والنحل للمصنف (١ / ١٦٦).