فقد ظهر لك من هذا إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل ، وأنه الذي جاء به الشرع وابتنى عليه. فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع ، وإن وجه العسر في تفهم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في المشاهد مثال له ، فهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه وتعالى ، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك معلوم الوجود في الشاهد ، مثل العلم بالصانع ، فإنه لما كان في الشاهد شرطا في وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب ، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون كان الشرع يزجر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته. مثل العلم بالنفس لم يضرب له مثال في الشاهد ، إذ لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم.
والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور إليها. لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم ، فيجب أن يتمثل في هذا كله فعل الشرع ، وأن لا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأويله.
والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب : صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى خاصة ، متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع. وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور ، وصنف عرفوا حقيقة الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم ، وهؤلاء هم الأقل من الناس. وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها ، وهؤلاء فوق العامة دون العلماء. وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع ، وهم الذين ذمهم الله. وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه. فعلى هذا المعني ينبغي أن يفهم التشابه.
ومثال ما عرض لهذا الصنف مع الشرع ما يعرض في خبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر. وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر ، وربما ضرر للأقل. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (البقرة : ٢٦).