وأقام بهما حجته على عباده ، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلا ، فالكتاب المنزل والعقل المدرك حجة الله على خلقه. وكتابه هو الحجة العظمى ، فهو الذي عرفناه لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدا ، وليس لأحد عنه مذهب ولا إلى غيره مفزع في مجهول يعلمه ومشكل يستبينه. فمن ذهب عنه فإليه يرجع ، ومن دفع حكمه فيه يحاج خصمه إذ كان بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية ، والمعارف اليقينية. فمن رد من مدعي البحث والنظر حكومته ، ودفع قضيته ، فقد كابر وعاند ولم يكن لأحد سبيل إلى إفهامه.
(حجج القرآن ظاهرة واضحة على إثبات التوحيد)
وليس لأحد أن يقول : إني غير راض بحكمه بل بحكم العقل ، فإنه متى رد حكمه فقد رد حكم العقل الصريح وعاند الكتاب والعقل ، والذين زعموا من قصارى العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضها إنما أتوا من جهلهم بحكم العقل ، ومقتضى السمع ، فظنوا ما ليس بمعقول معقولا ، فهو في الحقيقة شبهات توهم أنه عقل صريح وليست كذلك ؛ أو من جهلهم بالسمع إما بنسبهم إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ما لم يقله ، أو نسبتهم إليه ما لم يرده بقوله ، وإما لعدم تفريقهم بين ما لا يدرك بالعقول ، فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظن التعارض بين السمع والعقل ، والله سبحانه حاج عباده على ألسن رسله فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إياه بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها تناولا ، وأقلها تكلفا وأعظمها غنى ونفعا.
فحججه سبحانه العقلية التي في كتابه جمعت بين كونها عقلية سمعية ظاهرة واضحة قليلة المقدمات ، مثل قوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك وقطع أسبابه وحسم مواده كلها (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ، وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (سبأ : ٢٢ ـ ٢٣) فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسد بها عليهم أبلغ سد وأحكمه ، فإن العابد إنما يتعلق