ولو تظاهر عليه الثقلان فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء : ٨٨).
فانظر إلى أى موقع يقع من الأسماع والقلوب هذا الحجاج الجليل القاطع الواضح الذي لا يجد طالب الحق ومؤثره ومريده عنه محيدا ، ولا فوقه مزيدا ، ولا وراءه غاية ، ولا أظهر منه آية ، ولا أوضح منه برهانا ، ولا أبلغ منه بيانا.
وقال في إثبات نبوة رسوله باعتبار المتأمل لأحواله ودعوته وما جاء به (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ، أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (المؤمنون : ٦٨ ـ ٧٠).
فدعا سبحانه إلى تدبر القول وتأمل حال القائل ، فإن (كان) القول كذبا وزورا يعرف من نفس القول تارة ، وتارة من تناقضه واضطرابه بظهور شواهد الكذب عليه ، ويعرف من حال القائل تارة ، فإن المعروف بالكذب والفجور والمنكر والخداع والمكر ، لا تكون أقواله إلا مناسبة لأفعاله ، ولا يأتي منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق من كل فاحشة وغدر وفجر وكذب ، بل قلب هذا وقصده وعمله وقوله يشبه بعضه بعضا ، وقلب ذلك وعمله وقصده يشبه بعضه بعضا. فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل سيرة القائل وأحواله ، وحينئذ يتحقق لهم ويتبين حقيقة الأمر وأن ما جاء به أعلى مراتب الصدق.
قال تعالى : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يونس : ١٦) فتأمل هاتين الحجتين القاطعتين بهذا اللفظ الوجيز : أحدهما أن هذا من الله لا من قبلي ، ولا هو مقدور لي ، ولا من جنس مقدور البشر ؛ وأن الله لو شاء لأمسك عنه قلبي ولساني وأسماعكم وأفهامكم فلم أتمكن من تلاوته عليكم ، ولم تتمكنوا من درايته وفهمه.
الحجة الثانية : أنى قد لبثت فيكم عمري إلى حين أتيتكم به ، وأنتم تشاهدوني وتعرفوني وتصحبوني حضرا وسفرا ، وتعرفون دقيق أمري وجليله وتحققون سيرتي ، هل كانت سيرة ممن جاهر ربه بالكذب والفرية عليه ، وطلب إفساد العالم وظلم النفوس والبغي في الأرض بغير الحق.