هذا وأنتم تعلمون أني لم أكن أحفظ كتابا ولا أخطه بيميني ، ولا صاحبت من أتعلم منه ، بل صاحبتم أنتم في أسفاركم من تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما لم أشارككم فيه بوجه ، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين ، وعلم ما كان وما سيكون على التفصيل ، فأي برهان أوضح من هذا ، وأى عبارة أفصح وأوجز من هذه العبارة المتضمنة له.
وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (سبأ : ٤٦) ولما كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق حالتان : إحداهما أن يكون مناظرا مع نفسه ، والثانية أن يكون مناظرا مع غيره ؛ فأمرهم بخصلة واحدة وهى أن يقوموا لله اثنين اثنين ، فيتناظران ويتساءلان بينهما واحدا واحدا ، يقوم كل واحد مع نفسه ، فيتفكر في أمر هذا الداعي وما يدعوا إليه ويستدعى أدلة الصدق والكذب ، ويعرض ما جاء به عليها ليتبين له حقيقة الحال. فهذا هو الحجاج الجليل والإنصاف البين ، والنصح التام.
وقال سبحانه في تثبيت أمر البعث (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس : ٧٨ ـ ٧٩) إلى آخر السورة. فلو رام أفصح البشر وأعلمهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو مثلها ، في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز والاختصار ، ووصف حينئذ الدلالة وصحة البرهان ، لألفى نفسه ظاهر العجز عن ذلك. فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده الملحد اقتضى جوابا ، وكان في قوله سبحانه : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) ما وفي بالجواب وأقام الحجة وأزال الشبهة لو لا ما أراد الله تعالى من تأكيد حجته وزيادة تقريرها ، وذلك أنه تعالى أخبر أن هذا السائل الملحد لو تبين خلق نفسه وبدء