كونه لكانت فكرته فيه كافية. ثم أوضح سبحانه ما تضمنه قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) وصرح جوابا له عن مسألته بقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى ، إذ كل عاقل يعلم علما ضروريا أن من قدر على هذه ، قدر على هذه ، وأنه لو كان عاجزا عن الثانية عجز عن الأولى ، بل كان أعجز وأعجز.
ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله وموارده وصورته ، وكذلك هو عليم بالخلق الثاني. فإذا كان تام العلم كامل القدرة. كيف يتعذر عليه أن يحيى العظام وهي رميم؟ أكد الأمر بحجة تتضمن جوابا عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام إذا صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة في الأبدان تكون مادتها طبيعة حارة ، فقال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة. فالذي يخرج الشيء من ضده هو الذي يفعل ما أنكره الملحد من إحياء العظام وهي رميم.
ثم أكد الدلالة بالتنبيه على أن من قدر على الشيء الأعظم الأكبر فهو على ما دونه أقدر فقال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟).
فأخبر سبحانه أن الذي أبدع السموات والأرض على جلالتهما وعظم شأنهما ، وكبر أجسامهما وسعتهما وعجيب خلقهما ، أقدر على أن يخلق عظاما صارت رميما فيردها إلى حالتها الأولى ، كما قال تعالى : في موضع آخر (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر : ٥٧) وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأحقاف : ٣٣).