ثم بين ذلك بيانا آخر يتضمن مع إقامة الحجة دفع شبه كل ملحد وجاحد ، وهو أنه سبحانه ليس في فعله بمنزلة غيره يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، بل لا بد معه من آلة ومشارك ومعين ، بل يكفي في خلق ما يريد خلقه (كُنْ فَيَكُونُ) فأخبر أن نفوذ إرادته ومشيئته ، وسرعة تكوينه وانقياد الكون له. ثم ختم هذه الحجة باخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
فسبحان المتكلم بهذا الكلام الذي جمع ـ مع وجازته وفصاحته وصحة برهانه ، كل ما تدعوا إليه الحاجة من تقرير الدليل وجواب الشبهة بألفاظ لا أعذب منها للسمع ، ولا أحلى من معانيها للقلب. ولا أنفع من ثمراتها للعبد.
ومن هذا قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟ قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء : ٤٩ ـ ٥٢) فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل : فإنهم قالوا : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) فقيل له في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أن لا خالق لكم ولا رب ، فهلا كنتم خلقا لا يصيبه التعب كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟ فإن قلتم : لنا رب خالق خلقنا على هذه الصفة وأنشأنا هذه النشأة التي لا تقبل البقاء ، ولم يجعلنا حجارة ولا حديدا ، فقد قامت عليكم الحجة بإقراركم. فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وإعادتكم خلقا جديدا؟.
وللحجة تقرير آخر وهو إنكم لو كنتم من حجارة أو من حديد أو خلق أكبر منهما لكان قادرا على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال ؛ ومن قدر على التصرف في هذه الأجسام مع صلابتها وشدتها بالإفناء والإحالة ، فما يعجزه عن التصرف فيما هو دونها بإفنائه وإحالته ونقله من حال إلى حال؟