فأخبر سبحانه أنهم يسألون سؤالا آخر بقولهم : من يعيدنا إذا استحالت أجسامنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا الجواب نظير جواب قول السائل (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فلما اخذتهم الحجة ولزمهم حكمها ، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به كما يتعلق المقطوع بالحجاج بذلك وهو قولهم (مَتى هُوَ؟) فأجيبوا بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً).
ومن هذا قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (القيامة : ٣٦ ـ ٤٠).
فاحتج سبحانه على أنه لا يترك الإنسان مهملا معطلا عن الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ؛ وإن حكمته وقدرته تأبى ذلك ، فإن من نقله من نطفة منى ومن المنى إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم خلقه ، وشق سمعه وبصره ، وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع ، والأعصاب والرباطات التي هي أشد ، وأتقن خلقه وأحكمه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال ، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته ولا تعجز عنه قدرته.
فانظر إلى هذا الحجاج العجيب بالقول الوجيز ، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه القريب الذي لا تقطع الظنون على أقرب منه.
وكذلك ما احتج به سبحانه على النصارى مبطلا لدعوى إلهية المسيح كقوله (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (الأنبياء : ١٧) فأخبر تعالى أن هذا الذي أضافه من نسب الولد إلى الله من مشركى العرب والنصارى غير سائغ في العقول إذا تأمله المتأمل. ولو أراد الله أن يفعل هذا لكان يصطفي لنفسه ، ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوى