يقول دله بكلامه دلالة. ودل الكلام على هذا دلالة ، فالمتكلم دال بكلامه ؛ وكلامه دال بنظامه ، وذلك يعرف من عادة المتكلم في ألفاظه. فإذا كانت عادته أنه يعني بهذا اللفظ هذا المعنى ، علمنا متى خاطبنا به أنه أراده من وجهين : أحدهما أن دلالة اللفظ مبناها على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه ، وكذا على مراده بلغته التي عادته أن يتكلم بها. فإذا عرف السامع ذلك المعنى وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلم بذلك اللفظ أن يقصده ، علم أنه مراده قطعا ، وإلا لم يعلم مراد متكلم أبدا ، وهو محال.
الثاني : أن المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامه وعلم المخاطب السامع من طريقته وصفته أن ذلك قصده ، لا أن قصده التلبيس ، أفاده مجموع العلمين اليقين بمراده ؛ ولم يشك فيه ، ولو تخلف عنه العلم لكان ذلك قادحا في أحد العلمين ؛ إما قادحا في علمه في موضع ذلك اللفظ. وإما في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده ، فمتى عرف موضوعه وعرف عادة المتكلم به أفاده ذلك القطع ، يوضحه :
التاسع والأربعون : إن السامع متى سمع المتكلم يقول لبست ثوبا ، وركبت فرسا ، وأكلت لحما ، وهو عالم بمدلول هذه الألفاظ من عرف المتكلم ، وعالم أن المتكلم لا يقصد بقوله لبست ثوبا معنى ذبحت شاة ، ولا من قوله ركبت فرسا معني لبست ثوبا ، علم مراده قطعا ؛ فإنه يعلم أن قصد خلاف ذلك عد ملبسا مدلسا لا مبينا مفهما. وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظم استحالة وإن جاز على أهل التخاطب فيما بينهم.
فإذا إفادة كلام الله ورسوله اليقين فوق استفاده ذلك من كلام كل متكلم. وهذا أدل على كلام الله ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده ، وكلما كان السامع أعرف بالمتكلم وقصده وبيانه وعادته ؛ كانت استفادته للعلم بمراده أكمل وأتم.
الخمسون : أن قوله : إن فهم الدلالة اللفظية موقوف على نقل النحو والتصريف» جوابه : أن القرآن قد نقل إعرابه كما نقلت ألفاظه ومعانيه ، ولا فرق في ذلك كله. فألفاظه متوافرة وإعرابه متواتر ؛ ونقل معانيه أظهر من نقل ألفاظه وإعرابه كما تقدم بيانه. ونقل جميع ذلك بالتواتر أصح من نقل كل لغة