أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضاته بالمعقول أوحى إلى تلاميذه وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارضون بها الوحي ، وأوهم أصحابه أنها قواطع عقلية ، وقال : إن قدمتم النقل عليها فسدت عقولكم (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام : ١٢١) وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ. أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (الأنعام : ١١٢ ـ ١١٧).
الوجه الثاني والثلاثون : في بيان فساد معقول الشيخ الذي عارض به الوحي وذلك من وجود (أحدها) أنه قياس في مقابلة النص ، والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياسا باطلا ، ويسمى قياسا إبليسيا ، فإنه (يتضمن) معارضة الحق بالباطل ، ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته. وقد بينا فيما تقدم أنه ما عارض أحد الوحى بعقله إلا أفسد الله عليه عقله حتى يقول ما يضحك العقلاء.
(الثاني) أن قوله (أنا خير منه) كذب ، ومستنده في ذلك باطل ، فإنه لا يلزم من تفضيل مادة على مادة تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى ، فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها ، وهذا من كمال قدرته فإن محمدا صلىاللهعليهوسلم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوحا ، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أفضل من الملائكة. ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة ، وإن كانت مادتهم نورا ومادة البشر ترابا. فالتفضيل ليس بالمواد والأصول. ولهذا كان العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خير وأفضل عند الله ممن ليس مثلهم من (أشراف) قريش وبني هاشم ،