فإنهم ممن لا يتهم ، وهم عمر وابنه ، والمغيرة بن شعبة وغيرهم ، والعذاب الحاصل للميت بسبب بكاء أهله تألمه وتأذيه ببكائهم عليه ؛ والوزر المنفي حمل غير صاحبه له هو عقوبة البريء وأخذه بجريرة غيره. وهذا لا ينافي تأذى البريء السليم بمصيبة غيره. فالقوم لم يكونوا يعارضون النصوص بعقولهم وآرائهم ، وإن كانوا يطلبون الجمع بين النصين يوهم ظاهرهما التعارض.
ولهذا لما عارض بلال بن عبد الله (١) قوله صلىاللهعليهوسلم «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» برأيه وعقله وقال : والله لنمنعهن ، وأقبل عليه أبوه عبد الله فسبه سبا ما سبه مثله ، وقال : أحدثك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتقول : والله لنمنعهن؟
ولما حدث عمران بن حصين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله «إن الحياء خير كله» (٢) فعارضه معارض بقوله إن منه وقارا ومنه ضعفا ، فاشتد غضب عمران بن حصين وقال : أحدثك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقول : إن منه كذا ومنه كذا؟ وظن أن المعارض زنديق. فقيل له : يا أبا نجيد ، إنه لا بأس به.
ولما حدث عباده بن الصامت بقول النبي صلىاللهعليهوسلم «الفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء ـ الحديث» (٣) قال معاوية : ما أرى بهذا بأسا ، يعني بيع آنية الفضة بالفضة متفاضلا ، غضب عباده وقال : أقول قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقول ما أرى بهذا بأسا؟ وقال : لا أساكنك بأرض أنت بها أبدا. ومعاوية لم يعارض النص بالرأي وكان أتقى لله من ذلك ، وإنما خص عمومه وقيد مطلقه بهذه الصورة وما يشابهها ، ورأى أن التفاضل في مقابلة أثر الصنعة فلم يدخل في الحديث وهذا مما
__________________
(١) هو بلال بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ، من رجال «التهذيب» وهو ثقة والحديث أخرجه البخاري (٩٠٠) ، ومسلم (الصلاة / ٤٤٢ ـ ١٣٥) باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة.
(٢) أخرجه البخاري (٦١١٧) ، ومسلم (الإيمان ، باب : بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها ، وفضيلة الحياء ، وكونه من الإيمان).
(٣) أخرجه البخاري (٢١٧٤ ـ ٢١٧٥) ، ومسلم (١٥٨٦) وغيرهما.