وليس لقائل أن يقول ذلك الكتاب محرف ، وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في الأمم لا يطاق تعدادهم؟ وبلادهم متباينة وأوهامهم متباينة ، منهم يهودي ونصراني ، وهم أمتان متعاديتان فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون ، مقربة ما لا يفهمون بالتمثيل والتشبيه ، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة ، قال : فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب ، يعني أمر المعاد؟ لو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة كان بعيدا عن إدراك بداهة الأذهان تحقيقها ، ولم يكن سبيل للشرائع إلى الدعوة إليها والتحذير عنها إلا بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الأفهام ، فكيف يكون وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته؟ فهذا هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب.
فتأمل هذا الملحد ، بل رأس ملاحدة الملة ، ودخوله في الإلحاد من باب نفي الصفات ، وتسلطه في إلحاده على المعطلة النفاة بما وافقوا عليه من النفي ، وإلزامه لهم أن يكون الخطاب بالمعاد جمهوريا أو مجازا أو استعارة ، كما قالوا في نصوص الصفات التي اشترك هو وهم في تسميتها تشبيها وتجسيما ، مع أنها أكثر تنوعا وأظهر معنى وأبين دلالة من نصوص المعاد فإذا ساغ لكم أن تصرفوها عن ظاهرها بما لا تحتمله اللغة فصرف هذه عن ظواهرها أسهل.
ثم زاد هذا الملحد عليهم باعترافه بأن نصوص الصفات لا يمكن حملها كلها على الاستعارة والمجاز ، وأن يقال إن ظاهرها غير مراد ، وأن لذلك الاستعمال مواضع تليق به حيث يكون دعوى ذلك في غيرها غلطا محضا كما في مثل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ٥٨) فمع هذا التقسيم والتنويع يمتنع المجاز ؛ فإنما أريد ما دل اللفظ عليه ظاهرا. ومع هذا فقد ساعدتم على امتناعه لقيام الدليل العقلي عليه. فهكذا نفعل نحن في نصوص المعاد سواء. فهذا حاصل كلامه وإلزامه ودخوله