وقالت طائفة أخرى ، بل هي طريق في نفسها متناقضة مستلزمة لتكذيب الرسول لا يتم سلوكها إلا بنفي ما أثبته ؛ وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية ، كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله ، وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد ، فإن هذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلا عن نفي علوه على خلقه ، ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها ، ولا تتم إلا بنفي أفعاله جملة وأنه لا يفعل شيئا البتة ، إذ لم يقم به فعل فاعل ، وفاعل بلا فعل محال في بداءة العقول. فلو صحت هذه الطريق نفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له. وما يثبته أصحاب هذه الطريق من ذلك لا حقيقة له ، بل هو لفظ لا معنى له. فأنتم تثبتون ذلك وتصرحون بنفي لوازمه البينة التي لا عيب فيها وفي لزومها وتثبتون ما لا حقيقة له ، بل يخالف العقول كما تنفون ما يدل العقل الصريح على إثباته ولوازمه الباطلة أكثر من مائة لازم ، بل لا يحصى بكلفه.
فأول لوازم هذه الطريقة نفي الصفات والأفعال ، ونفي العلو والكلام ، ونفي الرؤية ومن لوازمها القول بخلق القرآن. وبهذا الطريق استجازوا ضرب الإمام أحمد لما قال بما يخالفها من إثبات الصفات وتكلم الله بالقرآن ورؤيته في الدار الآخرة ، وكان أرباب هذه الطريق هم المستولين على الخليفة فقالوا له : اضرب عنقه ، فإنه كافر مشبه مجسم ، فقيل له إنك إن قتلته ثارت عليك العامة. فأمسك عن قتله بعد الضرب الشديد.
ومن لوازمه أن الرب كان معطلا عن الفعل من الأزل والفعل ممتنع عليه ثم انقلب من الامتناع [الذاتي] إلى الإمكان الذاتي بدون موجب في ذلك الوقت دون ما قبله ، وهذا مما أغرى الفلاسفة بالقول بقدم العالم ورأوا أنه خير من القول بذلك ، بل حقيقة هذا القول : إن الفعل لم يزل ممتنعا منه أزلا وابدا ، إذ يستحيل قيامه به ، وعن هذه الطريق قال جهم ومن وافقه : بفناء الجنة وفناء أهلها وعدمهم عدما محضا ، وعنها قال أبو الهذيل العلاف : بفناء حركاتهم دون ذواتهم ، فإذا رفع اللقمة إلى فيه وفنيت الحركات بقيت يده ممدودة لا تتحرك