والعالم المشهود معين لا كلي. لزم قطعا مباينة أحد المتعينين للآخر ، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه.
فإن قيل : هو يتعين بكونه لا داخلا فيه ولا خارجا عنه ، قيل : هذا ـ والله ـ حقيقة. قولكم ؛ وهو عين المحال ، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة ، وأنتم إنما جعلتم تعينه بأمر عدمي محض ونفي صرف ، وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه ، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض ، وأيضا فالعدم المحض لا يعين المتعين ، فإنه لا شيء وإما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته ، فلزم قطعا من إثبات ذاته تعين تلك الذات ؛ ومن تعينها مباينتها للمخلوقات ، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره وصح بمقتضى العقل والنقل والفطرة ، ولزم من صحة هذه الدعوى صحة الدعوى الثانية ، وهي أن من أمكن مباينته للعالم وعلوه عليه لزمه إمكان ربوبيته وكونه إلها للعالم.
(فصل) ثبت بالفعل إمكان رؤيته تعالى ، وبالشرع وقوعها في الآخرة ؛ فاتفق الشرع والعقل على امكان الرؤية ووقوعها ، فإن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود ، وما كان أكمل وجودا كان أحق أن يرى ، فالبارى سبحانه أحق أن يرى من كل ما سواه ، لأن وجوده أكمل من كل موجود سواه.
يوضحه : أن تعذر الرؤية إما لخفاء المرئي ، وإما لآفة وضعف في الرائي ، والرب سبحانه أظهر من كل موجود ، وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه ، فإذا كان الرائي في دار البقاء كانت قوة البصر في غاية القوة لأنها دائمة ، فقويت على رؤيته تعالى ، وإذا جاز أن يرى ، فالرؤية المعقولة له عند جميع بني آدم ، عربهم وعجمهم وتركهم وسائر طوائفهم ، أن يكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له بائنا عنه ، لا تعقل الأمم رؤية غير ذلك. وإذا كانت الرؤية مستلزمة لمواجهة الرائي ومباينة المرئي لزم ضرورة أن يكون مرئيا