فهذه القصة في المناظرة هى نقل أهل الكتاب ، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها ، وكأنها والله أعلم مناظرة وضعت على لسان إبليس. على كل حال فلا بر من الجواب عنها سواء صدرت عنه أو قيلت على لسانه فلا ريب أنها من كيده. وقد أخبر تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (النساء : ٧٦).
فهذه الأسئلة والشبهات من أضعف الأسئلة عند أهل العلم والإيمان وإن صعب موقعها عند من أصل أصولا فاسدة كانت سدا بينه وبين ردها. وقد اختلف طرق الناس في الأجوبة عنها فقال المنجمون وزنادقة الطبائعيين والفلاسفة : لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيء من ذلك ، بل لم يزل الوجود هكذا ولا يزال نسلا بعد نسل وأمة بعد أمة وإنما أمثال مضروبة لانفعال القوى النفسانية الصالحة لهذا البشر ، وهذه القوى هي المسماة فى الشرائع بالملائكة واستعصت القوى الغضبية والشهوانية : وهي المسماة بالشياطين. فعبروا عن خضوع القوى الخيرية الفاضلة بالسجود ، وعبر عن إباء القوى الشريرة بالإباء والاستكبار وترك السجود. قالوا : والحكمة الإلهية اقتضت تركيب الإنسان على هذا الوجه ، واسكان هذه القوى فيه وانقياد بعضها له وإباء بعضها. فهذا شأن الإنسان. ولو كان على غير هذا التركيب لم يكن إنسانا قالوا : وبهذا تندفع الأسئلة كلها ، وإنها بمنزلة أن يقال : لم أحوج الإنسان إلى الأكل والشرب واللباس. ولما أحوجه إليها ، فلم جعله يبول ويتغوط ويمخط؟ ولم جعله يهرم ويمرض ويموت؟ فإن هذه الأمور من لوازم النشأة الإنسانية. فهذه الطائفة رفعت القواعد من أصلها وأبطلت آدم وإبليس والملائكة ، وردت الأمر إلى مجرد قوى نفسانية وأمور معنوية.
وقالت الجبرية ، ومنكروا العلل والحكم : هذه الأسئلة إنما ترد على من يفعل لعلة أو غرض أو لغاية. فأما من لا علة لفعله ولا غاية ولا غرض ، بل يفعل بلا سبب فإنما مصدر مفعولاته محض مشيئته وغايتها مطابقتها بعلمه وإرادته ، فيجىء فعله عن وفق إرادته وعلمه. وعلى هذا فهذه الأسئلة كلها. إذ مبناها على أصل واحد ، وهو تعليل أفعال من لا تعلل أفعاله ولا يوصف تحسن ولا قبح