الوجه الرابع : إن الله فطر عباده حتّى الحيوان علي استحسان وضع الشيء في موضعه والإتيان به في وقته وحصوله على الوجه المطلوب منه ، وعلى استقباح ضد ربك وخلافه وأن الأول دال على كمال فاعله علمه وقدرته ، وضده دال على نقصه ، وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها ، فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها ، ويخصها من الصفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أنسب لها من غيره ؛ وأبرزها في أوقاتها المناسبة لها ، ومن له نظر صحيح وأعطى التأمل حقه شهد ذلك فيما رآه وعلمه ، واستدل بما شاهده على ما خفى عنه ، وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك فقال (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات : ٢١).
(النظر في ملكوت السماوات والأرض يدل على عظمة الصانع)
من نظر في هذا العالم وتأمله حق تأمل وجده كالبيت المبني المعد فيه جميع عتاده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والمنافع مخزونة كالذخائر ، كل شيء منها لأمر يصلح له ، والإنسان المخلول فيه ، وضروب النبات مهيئات لمآربه ؛ وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه ، فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط. ومنها ما هو للركوب والحملة فقط. ومنها ما هو للجمال والزينة ، ومنهار ما يجمع ذلك كله بالإبل ، وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء ؛ ففيها عبرة للناظرين وآيات للمتوسمين ؛ وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها ومقاديرها ومنافعها وأصواتها صافات وقابضات ؛ وغاديات ورائحات ، ومقيمات وظاعنات ، أعظم عبرة وأعظم دلالة على حكمة الخلاف العليم ، وكل ما أخذه الناس وأدركوه بالأفكار الطويلة والتجارب المتعددة من أصناف الآلات والمصانع وغيرها إذا فكر فيها المتفكر وجدها مشتقة من الخلقة ، ومستنبطة من الصنع الإلهي .. مثال ذلك أن القبان (١) مستنبط من خلقه البعير ، فإنهم لما رأوه ينهض بحمله وينوء به ويمد عنقه ويوازن حمله برأسه استنبطوا القبان من ذلك ، وجعلوا طول
__________________
(١) القبان : الميزان ذو الذراع الطويلة المقسمة أقساما ، يحرك عليها جسم ثقيل يسمى الرمانة لتبين وزن ما يوزن (الوجيز).