الله فيه الظلم كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت : ٤٦) فلا يحسن بوجه أن يقال عقيب هذه الجملة : وما ربك بجامع للعبيد بين الوجود والعدم في آن واحد ، وإنما الظلم المنفى هو خلاف ما اقتضاه قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ، وكذلك قوله : (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء : ٧٧) ، (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء : ١٢٤) (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم : ٦٠) ؛ أي لا يترك من أعمالهم ما هو بقدر الفتيل والنقير ، فيكون ظلما ، وعند الجبرية تجوز أن يترك ثواب جميع أعمالهم من أولها إلى آخرها بغير سبب يقتضي تركها إلا مجرد المشيئة والقدرة ، ولا يكون ذلك ظلما. وكذلك قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (الزخرف : ٧٦) ، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) (هود : ١٠١) بين أنه لم يعاقبهم بغير جرم فيكون ظالما لهم بل عاقبهم بظلمهم أنفسهم (١).
والمعنى عند الجبرية : إنا تصرفنا فيهم بقدرتنا ومشيئتنا وملكنا فلم نظلمهم وإن كانوا مؤمنين محسنين ، وليست الأعمال والسيئات والكفر عندهم
__________________
(١) قال الإمام الشهرستاني في «الملل والنحل» باب الجبرية : الجبر هو نفى الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى ، والجبرية أصناف : فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا ، والجبرية المتوسطة أن تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة فأما من اثبت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل وسمى ذلك كسبا فليس بجبرى ... الخ كلامه.
وقال ابن حزم في «الفصل في الملل والنحل» : من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا : لما كان الله تعالى فعالا وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب أن لا يكون أحد فعالا غيره وقالوا أيضا : معنى إضافة الفعل إلى الإنسان إنما هو كما يقول : مات زيد ، وإنما أماته الله تعالى ، وقام البناء ، وإنما أقامه الله تعالى ... ثم قال : وخطأ هذه المقالة ظاهر بالحس والنص وباللغة التي بها خاطبنا الله تعالى ، وبها نتفاهم :
فأما النص : فإن الله عزوجل قال في غير موضع من القرآن : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ، وقال : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل ونصنع ، وأما الحس : فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهة علمنا يقينا علما لا ـ